الخميس، 1 أغسطس 2019

أيامي


كانت مصافحتي الأولى لعميد الأدب العربي طه حسين بقراءة كتابه الماتع (الأيام) وقد وقعتُ على تقاطعات كبيرة بين صِبَاه وصِبَانا، فسطَّرتُ فصلًا من أيامي على منوال أيامه.. 



جلس صاحبنا للإقراء، وقد انقطع برهةً من الزمن، لا لكسلٍ فيه أو توانٍ، بل الكسل يرمي به طلّابَه، وإن كان يلتمس العذر لأكثرهم، لنأي الدار، وكثرة الأشغال.
أتى ابنه الحظيّ أحمد رشيد، وكان أبعدهم عهدًا بالقراءة والعرض على صاحبنا، فظروف التحاقه بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة حالت بينه وبين الانتظام في الحضور، وعرض التلاوة.
شرع في قراءة حزبه، تلكَّأ كثيرًا وتلجلج، وحار جوابًا في كل سؤالٍ وجّهه إليه صاحبنا، فاستشاط صاحبنا غضبًا وثار عليه، وانطلق كالسيل العارم، يعنِّفه على سوء أدائه، ورداءة قراءته، وكيف أن بُعدَه عن مكة المكرمة، وزهده في مجلس الإقراء، خلّفهُ قارئًا عاديًّا، كغيره من حفظة كتاب الله الذين لم يعرضوا على شيخ، لا مزيّة له عليهم.
هنا عاد صاحبنا بشريط الذكريات إلى بداياته في تحفيظ القرآن الكريم بالمسفلة، كان أول أمره يختلف إلى الأستاذ محمد ناصر، وهو ابن خمس سنين، شأنه شأن أترابه في مجتمعه، لكن صاحبنا كان عصيًّا متمرّدًا، لا يذهب إلى التحفيظ إلا بشقّ الأنفس، كان يُحمل إليه حملًا، وكرهه للتحفيظ كان لسببين، أحدهما: أن الأستاذ كان يملك عصا (باكورة) مخصصةً لكل طالب، يُعاقب بها ويُضرب، إذا قصّر في تسميع الدرس أو المراجعة.
والسبب الأهمّ: أن التحفيظ كان يتزامن مع وقت عرض مسلسل الكرتون (سالي)[1] الذي كان صاحبنا مولعًا به، في وقتٍ لم يكن فيه التلفزيون ضيفًا في كلِّ بيت.
لم يلبث صاحبنا عند الأستاذ محمد ناصر فترة طويلة، فأخوه الكبير يوسف قد عُيِّن مدرسًا لتحفيظ القرآن الكريم بمسجد الحارة كأول مدرسٍ بها. و(جحا أولى بلحم ثوره).
فانتقل صاحبنا إلى حلقة أخيه يوسف، بيد أن الأمر مختلفٌ تمامًا هنا، فالأستاذ هنا أخوه، ولا يستطيع أن يعاقبه، فلا سبيل له إليه إلا الترغيب والتدليل.
كان صاحبنا يأتي التحفيظ كل يومٍ ودمعه يهمِي على خدَّيه، ويجلس غدوته في المسجد محتبيًا، مخفيًا وجهَه، ويظلّ على حاله تلك إلى أن يصالحه أخوه الأستاذ بريال، فيفكُّ حبوته، ويكشف وجهه، ويعود إلى البيت فرحًا مسرورًا.
شيئًا فشيئًا بدأ يعتاد على التحفيظ، ويسري عليه ما يسري على باقي الطلاب. تقدّمه في الحفظ والاستظهار لم يكن كما كان يؤمّل أخوه، فقد أتمّ الفتى حفظ ثلث القرآن وهو في الصف الثالث الابتدائي، ولم يكن هذا ليرضي أخاه الأستاذ، الذي جلس للتدريس وهو في الصف الثاني المتوسط، أي أنه أتمّ حفظ القرآن كاملًا وهو في الصفِّ السادس الابتدائي، والتحق بعدها بمعهد دار الأرقم بن أبي الأرقم لإعداد معلمي تحفيظ القرآن الكريم، ليصبح مدرِّسًا للتحفيظ وهو ابن أربعة عشر عامًا.
في الصف الرابع الابتدائي أتمّ صاحبنا حفظ نصف القرآن، وأصبح مؤهّلًا ليتقدَّم لاختبار الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم، في هذه الأثناء كان الفتى قد حُوِّل وزملاؤه من غير السعوديين إلى مدارس مسائية، الخبر الذي نزل على أسرته كالصاعقة، وأقضّ مضجع والديه، والذي كان مثار فرحٍ عارم للفتى، فهو يخرج من المدرسة قبيل المغرب، ما يعني أنه لا يصرف من يومه الدراسي في التحفيظ إلا نصف ساعة كل يوم، عوضًا عن ثلاث ساعات، فهي هدية القدر سيقت إليه سوقًا.
لم يكن أمام الأسرة إلا الرضوخ لهذا الأمر، وإن كانت تتخلل طوال فترة دراسته بالمدرسة المسائية محاولات حثيثة لإعادته لمدرسةٍ صباحيّةٍ، حتى لا يتأثر درسُه في تحفيظ القرآن، لكن تلك المحاولات لم تفلح، ولم يكتب لها النُجح إلا بعد عامٍ كاملٍ قضاه الفتى في مدرسةٍ مسائيةٍ. 
تلك الثلاثون دقيقة كانت تنقص في أغلب الأيام، فصاحبنا كان يتعمّد أن يختار طريقًا بعيدةً للرجوع إلى المنزل، ليقلّل من أمَدِ بقائه في التحفيظ، ما يعني أن الوقت لا يسعفه للمراجعة وتسميع درسٍ جديدٍ، فيكتفي الأستاذ بأحد الأمرين، وهو الأمر الذي جعل صاحبنا في سعةٍ وبحبوحة، فلا يحتاج أن يحفظ درسًا جديدًا كل يوم.
تقدَّم لاختبار جمعية القرآن الكريم لنصف القرآن، في العام نفسه مرغمًا، وقد علم من نفسه يقينًا أنه لا محالة غير متجاوزٍ للاختبار.
وحصل ما كان متوقعًا، فقد فشل الفتى في الاختبار، ولم تكن عليه ملامة شديدة، فقد برّر أبواه فشله بدراسته المسائية.
من عامه المقبل تقدّم للاختبار ثانية، وسط رقابةٍ صارمةٍ عليه من أبيه، ومتابعةٍ يوميةٍ واستماع لجزء في المنزل، غير الذي يراجعه عند أستاذه في التحفيظ، قطعت عليه أسرته كلَّ أسباب الفشل والسقوط، ولم يعد عذر المدرسة المسائية قائمًا، فقد نُقل إلى مدرسة صباحية وهو في الصف الخامس الابتدائي.
لم يخيّب الفتي ظنَّ أسرته فيه، فقد نجح بتقدير ممتاز، وكُرِّم كونه الثاني على دفعته في سنته، وكوفئ بمبلغ ألف ريال، الذي كان قد خطّط لصرفه بشراء جهاز ألعابٍ طالما حلم باقتنائه.
أكمل كأيِّ طالبٍ إلى أن أتمّ استظهار المصحف كاملًا، وهو في الصف الثاني المتوسط، ومُنع من قِبَل أخيه أن يتقدّم لاختبار الجمعية في حفظ كامل القرآن، لعدم تمكنّه من الحفظ، ولئلا تتكرر تجربة الخيبة الأولى في اختبار نصف القرآن، وحيل بينه وبين الاختبار تلك السنة.
ظلَّ عامًا كاملًا يراجع القرآن، ويستعدّ للاختبار، ولم يكن قد أتقن الحفظ، ولكن بتوفيقٍ من الله، ودعاءٍ مخلصٍ من والدته، نجح في اختبار كامل القرآن بتقدير ممتاز، والذي أهّله للقبول في معهد دار الأرقم بن أبي الأرقم بكلِّ يسرٍ وسهولةٍ.
في المعهد وعند الشيخ إمداد الله البلوشي –طيّب الله ثراه- وجزاه عن صاحبنا خير الجزاء وأوفاه، بدأ صاحبنا حياةً جديدةً ورحلة جديدة مع القرآن، لم يعد أمر الحفظ والمراجعة ملزمًا، لاسيما مع شيخٍ ما عُرف بأحلم منه، ولا أرقّ طبعًا، ولا أكثر تواضعًا، ولا ألين جانبًا.
في المعهد حفظ صاحبنا القرآن حفظًا متقنًا، والذي لا يزال حتى يومنا يحتفظ به. أحبّ الشيخ وأحبه الشيخ، فغدا أول ما يصل إلى الحرم يصلي العصر، يرقب مقدم شيخه ليتلقّاه بالسلام، ويعرض عليه جزءًا من القرآن، وعلى امتداد عامين في المعهد كان هذا دأبُه، وهاتيك سنَّتُه. فنال من بركة الشيخ أعظمها، وأفاد من علمه أكثره.  
وبدا أثر هذا واضحًا في نتائجه، فقد تخرج في المعهد بتميّزٍ، ونال المركز الثالث على دفعته.
أضحى بعدها مدرسًا لتحفيظ القرآن الكريم، واكتفى بما حصّل من علمٍ في كلام الله، ولم يستزد، بل لم يكن على علمٍ بأنه إنما وضع قدمه على بداية الطريق لا نهايتها كما ظنّ.
في المدرسة التوحيدية التي كان يدرّس بها، بعد حصوله على شهادة الثانوية العامة، تعرّف إلى الأستاذ صبري فطاني، الذي كان يتلقى القراءات عن المقرئ السيد نبيل الغمري، فتملّكه الفضول لسبر أغوار هذا العلم، ومعرفة كنهه، فطلب إلى الأستاذ صبري أن يقرئه، فوافق الأستاذ، وشرع صاحبنا في العرض عليه برواية شعبة عن عاصم، حتى إذا أوشك على الختم، استبقى قصار السور بتوجيه من الأستاذ، ليتمّ الختم على السيد نبيل، وبهذا يمهّد الطريق لصاحبنا ليتعرّف بالشيخ المقرئ ويقابله عيانًا.  
توجّس من لقاء الشيخ، فقد كان مهيبًا وذا جلالة. حضر مجلس إقرائه بمسجد الصبّان بأمّ الجود، وانتظر دوره ليقرأ، في صمتٍ كان يراقب المشهد، والقلق يعتمل في داخله. آن أوان عرضه التلاوة، فاستعاذ وبسمل وشرع في القراءة، وأنهى ختم القرآن بالدعاء، وحانت لحظة نطق الشيخ تعقيبًا على تلاوته ونقدًا لها، لم يكن يؤمّل الكثير، فجملةٌ مثل: بارك الله فيك ونفع بك، كانت لترضيه.
تناول الشيخ كتابه الموسوم بـ "تقريب النفع وتيسير الجمع بين القراءات السبع" وكتب في الصفحة الأولى:
"إهداء إلى تلميذنا النجيب (.............)، مقرونةً بالإجازة في قراءة عاصم، بالروايتين عنه، نسأل الله لنا وله القبول، بجاه الرسول، وأصحابه الفحول"  المؤلف.
لم يمض شهرٌ حتى انتدب الشيخ نبيل إلى المدرسة التوحيدية، ضمن الكادر الوظيفي التعليمي للمدرسة، كانت من خطة وزارة التربية والتعليم انتداب بعض المعلمين السعوديين الحكوميين إلى المدارس الخيرية، ليفيدوا من خبرتهم، ويرفعوا من مستوى الأداء التعليمي بالمدارس الخيرية.
أيّ هديةٍ من الله تكون أعظم عند صاحبنا، من أن يأتي الشيخ إلى ذات المدرسة التي هو بها، إذن فقد وجبت القراءات.
لم يفرّط صاحبنا في لحظة، فانطلق من اليوم الأول في العرض على الشيخ بدءًا برواية ورش عن نافع، كان يتّقد حماسًا واجتهادًا، وكان ذا حفظٍ قويٍّ متينٍ، يكمِّله ذكاءٌ وقَّادٌ ونباهة. كل ذلك نوّله حظوة عند الشيخ ومكانة عليّة.   
روايةٌ تلو أخرى، دون كللٍ أو مللٍ، يضيفها صاحبنا لقائمة ما أجيز فيها.


ما يتبع هذا من السرد، قد يرى فيه الأغلب نرجسية مفرطة، وكبرًا منبوذًا، وغرورًا مطّرحا.
لذا نضرب عنه الذكر صفحًا .. 






[1] سالي هو الاسم العربي للشخصية الرئيسية للمسلسل الكارتوني ذو الإنتاج الياباني المقتبس من الرواية الشهيرة للكاتبة (فرانسيس هودسون برنيت) تحت اسم "الأميرة الصغيرة" واسم الفتاة في الرواية هو سارة. تم إنتاج المسلسل عام 1985م، بواسطة شركة نيبون أنيميشن. وتمت دبلجته إلى الألمانية، والفرنسية، والعربية.

يعتبر هذا المسلسل الكارتوني من أنجح المسلسلات الكارتونية المدبلجة إلى العربية؛ وذلك لاحتوائه على فكرة عميقة جدًّا، وهي أن انتقال الإنسان من مرحلة الغنى إلى الفقر لا يعني نهاية العالم، وأن الأمل والإيمان قادرٌ على تحويل أسوأ الظروف إلى أجملها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق