في ليلٍ بهيمٍ اتَّشح السواد، من شتاءات يناير، ليست
بذات قرٍّ، لكنها لأهلها كذلك، والريح تعوي خلف النوافذ ومن وراء الأبواب، والصمت
يلفُّ المنزل بردائه، حتى لَتَسمع صوت سقوط الإبرة، ولا مكيف هواء يشوِّش مسمعك.
انتبه كلُّ من في المنزل من هجعتهم على صياحٍ وعويلٍ،
فهُرعوا جميعهم إلى الباب، فراعهم ما رأوا..
ضعيفة هزيلة أضناها المرض والجوع، فلا تكاد تقيم عودها،
ولا تقوى على النطق لشدِّ ما أصابها، رثَّةٌ غطَّت آثار التراب بعضًا من ملامح
وجهها، ويبدو أنها تمرَّغت في الطين، حالها يُنبي عن عَوَزِها، ولكن منْ يتفرَّسْ
يرَ في عينيها أنها حسيبة، ربيبة أهل يسارٍ وغنًى، وكانت يومًا ذات عزٍّ ودلال،
وإنما جار عليها الزمان، وعضَّتها ناب الدهر.
ذُهل أهل المنزل مما شاهدوا، حتى إنهم انشغلوا عن
المسارعة في نجدتها، وإسعافها بشربة ماء، فأسرع الابن الأصغر من فوره، وأحضر ماءً،
وقرَّبه إليها، فأمست ترشف منه حسوًا حسوًا.
تعاونوا في حملها إلى داخل المنزل، ووطأوا لها فراشًا
كيما تريح جسدها المتهالك، فأشارت الأم إلى الأب أن كيف نؤوي هذه الشريدة؟! ولا
علم لنا بما اقترفت يداها، فأومأ الأب أن دعنا نتريَّث حتى نستبين الأمر، هنا تدخل
الابن في حزمٍ، وعينه توقَّدُ غيظًا، وقد امتلأ قلبه رحمةً بها، أو ربما انقدحت
شرارة تعلُّقه بها، ماذا جرى لكما؟ أم كيف تفكران؟ وأين منكما العطف والرأفة؟ لا
أرضى حتى تستقرَّ معنا وتسكن بين ظهرانينا، ونقوم على رعايتها، ويقضي الله أمرًا
كان مفعولًا متى برأت من سقمها، واستردَّت عافيتها.. كادت الأم لتبدي بما انطوى
عليه صدرها من المعارضة والامتعاض، لولا أن رأت إصرار ابنها وشدَّته.
ما إن هدأت ثورة النقاش حتى ذهب الابن يلتمس لها
طعامًا، وانصرف الأبوان إلى غرفتهما، وظلَّ الابن ليلَه كلَّه ساهرًا معها، يقوم
على خدمتها، ويرعى شأنها.
ها هي خيوط الشمس تتسلَّل من النافذة موقظةً أهل الدار،
معلنةً بدء يوم جديد لهذه الأسرة وضيفتهم.
ما كان بالأمس من توجُّسٍ وقلق قد امَّحى اليوم، وشرع
الصغير والكبير يهيل على الضيفة ألوان المودَّة والمحبة.
تعاقبت الليالي والأيام، ولا شيء ينغِّص على هذه الأسرة
صفاء عيشها وهناءها، حتى لاحظت الأم يومًا أن الضيفة حامل، ومثل هذا لا يخفى على
عجوز أربَتْ على الستين، وأنجبت سبعًا.
ويل أمي ويل أبي، ما نحن فاعلون بهذه الطامة الكبرى
والبلوى العظمى؟؟!
لا مناص من الإبقاء عليها في المنزل حتى تضع وليدها،
وإن كان إقصاؤها وطردها في أول ليلةٍ أمرًا عسيرًا، فهو اليوم أشدُّ عنتًا.
كعادة الابن الأصغر لم يتخلَّ عنها البتة، وكان يتعاهد
طعامها، ويتخيَّر لها ما تستلذُّه وتستطيبه مهما غلا، وإن كان في ذلك إرهاقٌ له، فإن
الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
كان يقضي الساعات الطوال برفقتها، ويكتفي منها ببضع
نظرات، وهي التي لم تنطق أبدًا.
كانت ثمَّة إرهاصات توحي بقرب موعد وضعها، وذات ليلةٍ
كانت الأسرة في موعد متجدد مع عويلها ونواحها، وهي تئنُّ من ألم المخاض، وقد طال
عليها الأمد، وقاست أيَّما مقاساة في ولادتها.
لجأ كلُّ من في البيت إلى الله، بين مبتهلٍ وداعٍ أن
يشدَّ الله أزرها، ويمدَّها بعونه، وبعد ساعات من التربص والانتظار، انطلقت صرخات
الرضيع، وانبسطت معها أسارير أهل الدار، فرحًا واستبشارًا، وما هي إلا لحظات حتى
انقلب كل ذلك إلى بهوت وذهول، حين وجدوا أنها وضعت أربعة توائم!!
ولْوَلَتِ الأم وحَسْبَلَتْ وحَوقَلَتْ، وغَدَتْ تذرع
أرجاء البيت تزمجر، وتوجَّهت بالحديث إلى ابنها: كلُّ هذه المصائب جرَّاء صنيعك
الأول، وقرارك الخاطئ بإبقائها في تلك الليلة المشؤومة، كم قلتُ لك: دعها تمضي في
سبيلها، فلا شأن لنا بها، ولا طاقة لنا بمشاكلها وهمومها، لكن أبيتَ إلا أن تجرَّ
علينا الويلات تلو الويلات، دونك واستعدَّ لما ستلقاه من نصَب ووصَب!!
"بيتٌ لا طفلَ فيه مواتٌ!!"
أضفت الصبية الصغار على المنزل بهجةً وحبورًا، وملأت
حركاتهم ولهوهم في أرجاء البيت حياةً، وباتت الأسرة بضيفتها وبنيها يرفلون في
أثواب من النعيم والسَّعد، ولكن يأبى القدر إلا أن يرمي هذه الضعيفة بسهامها، وتي
المرة يكلمها في فلذات كبدها.
الابن الذي احتضنها من أول ليلة قدمت فيها، تعلّق
بالطفل الثاني، الذي يأسر ناظره ببراءة قسماته، ويخلب اللبَّ بردّات أفعاله، ولأنه
مكتنزٌ لحمًا، مملوءٌ شحمًا، كان يناغيه فيناديه (فقُّومة)، ولشدِّ ما تعلَّق به،
كان ينيمه في حجرته.
وفي ليلةِ ضرب فيها القضاء موعدًا مع هذه العائلة، ليأتي
حاملًا معه الحزن والأسى، نام الابن وأضجع إلى جواره قرَّة عينه (فقومة)، وبينا
غطَّ في سبات عميق، ولم يشعر بحاله، تدحرج على الطفل، وصيَّره أسفل منه، ولم يدرِ،
والطفل المسكين لا حول له ولا قوة، ومن الضعف بمكان، فلا يقدر على إزاحته ولو
قليلًا كيما يلتقط أنفاسه، وبوغت على حين غرَّة، فلم تكن له فسحة بحيث يصرخ
فيُسمع..
وا فجيعتاه .. وا كربتاه ..
ما كانت السكينة لتعرف طريقها إلى هذه المسكينة حتى
تضلَّ طريقها، وما كانت هذه الفجيعة وحدها التي قصمت ظهرها، فالدهر آلى إلا أن
يجرِّعها الغصَّة تلو الغصَّة.
لم يمضِ وقت طويل على فقدها (فقومة) حتى رزئت بفقد طفل
آخر، كان قد بدأ يدبُّ شيئًا فشيئًا، ويتعثر في خطواته، ويروح ويجيء على غير هدًى،
وذات يوم والأهل عنه غافلون، خرج إلى الشارع، ووقع الأمر الجلل، الذي لطالما من
أجله منعت الأهالي أطفالها من الاقتراب من الشارع.
صوت مكابح السيارة رنَّ في أرجاء الحيِّ، وها هي كل
نوافذ البيوت تتفتَّح، تنظر ماذا جرى؟؟!
يا للهول .. يا للداهية ..
(نادر) أحد التوائم الأربعة دهسته سيارة، وفتتت جسده،
وقضى نحبه في لحظتها.
هل كان هذا المنعرج الذي حدا بها إلى العودة لسابق
عهدها، وماضي سيرتها؟؟!
الذي لا مرية فيه أن الوقائع التي قدِّر لها معايشتها
يئطُّ منها الشديد الجَلَود من الرجال، ولا طاقة لحملها إلا لعظيم الإيمان قويِّه.
تبدَّلت حالها بعد ذَين الحادثين، فغدت لا مبالية أكثر
منها ضعيفة مسكينة، وبدأت تظهر عليها علامات النشوز، وصارت لا تكترث أن لو أزعجت
هؤلاء الأجاويد الذين أحسنوا إليها، وبالغوا في إكرامها، بتصرفاتها الرعناء،
وسلوكياتها المنبوذة.
غدت كل مساء تخرج إلى باحة البيت، وانتبه لذلك فتية
الحيِّ، فأمسوا يحومون حول البيت، يرجون منها الوصال والنوال، وما كانت لتبخل
عليهم به.
كل ذلك بمرأى ومشهد من أهل البيت، الذين بلغ سيلهم
الزبى، وجاوز الربى، وقد أعياهم الكرُّ والفرُّ معها.
ومضت الأيام والضيفة على سنَّتها التي دأبت عليها آخر
أيامها، إلى أن أتى اليوم الذي اختفت فيه بلا سابق إنذار، ولا مرتقب موعد، وغالب
الظن أن أحد أبناء الجيران تلقّفها، وذهب بها!!
نعم .. سُقينا بسببها العذاب ألوانًا، وغالبنا بصحبتها
الهموم والمناكد أشكالًا، لكن رغم كل ذلك، ملأت علينا المنزل، وبعثت الحياة في كل
ركن فيه، وباختفائها فقدنا عزيزًا أحببناه، ونكابد من الشوق أحرَّه للقياه.
الرجاء على من عثر على قطة بيضاء، كثيفة الشعر، ذات
عينين زرقاوين، الاتصال على هذا الرقم 0553225473
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق