الثلاثاء، 4 يناير 2022

مطوّفون أيضًا

 

من نافلة القول ومكرور الكلام بلا طائل أن تشرح معنى (مطوِّف) لساكنِ مكة، بَيْدَ أن قَالَتِي لربما بلغت آفاقًا أبعد، فعليه أقول: ليس المطوف ذلكم الشيخ الذي يكون في صحن المطاف، والذي يعتمر شماغًا، ويلتحف مشلحًا، ويقود مجموعةً من الطائفين، يرددون معه الدعاء أثناء الطواف، وهو وإن كان مطوِّفًا بفعله وصفته، إلا أن المعهود الذهني عندنا منصرفٌ إلى غيره.

فيما مضى كان الحجاج حين يفدون إلى مكة، يقيمون عند بعض عوائلها، فيقومُ كل أفراد تلكم العوائل على خدمة الحجاج في كامل رحلة النُسُك، ينزلونهم في بيوتهم، ويتعهدون مطعمهم ومشربهم، ويذهب بهم الرجال إلى الحرم ليطوِّفوهم، ويتكفَّلون بنقلهم إلى المشاعر المقدسة، ونصب الخيام هنالك، وإسكانهم بها، وهم في كل ذلك يعملون على راحتهم في أداء الفريضة، ولا يشترطون لذلك جُعْلًا، والأمر متروك للحجاج، يكرمونهم نظير خدمتهم بما تجود به أنفسهم، وللمسألة تفاصيل، لستُ أهلًا للحديث عنها، إذ لا أنحدر من إحدى تلك العوائل.

وكان العمل على هذا إلى مطلع القرن الهجري الحالي، إلى حين تقنين تقديم هذه الخِدْمات وضبطها بإنشاء مؤسسات الطوافة من أبناء تلك العوائل، وصار المنتسب إلى إحدى هذه المؤسسات يُسمى (مطوِّفًا). 

وقد أتيتُ بتي التَّقْدِمَة لحاجةٍ في نفس يعقوب، ولتعلمنُّ نبأه بعد حين.

أما وإن جدِّي في مقدَمِه من إقليم أراكان إلى هذه الديار في الرعيل الأول من المهاجرين وقتذاك، استوطن مكَّة أول أمره، ثم تحوَّل عنها إلى جوار الحبيب المصطفى –صلى الله عليه وسلم- ونِعم واللهِ ما فعل، وإني أشكر له هذا الصنيع، إذ أضاف لنا أسبابًا أخر لزيارة المدينة النبوية، وكان والدي تبعًا لجدِّي، فاستوطنها في بعض سنيِّ شبابه، ثم إنه بعد زواجه من أمي (ابنة مكة) بعامٍ، عاد إلى مكة، وظلَّ جدي وأعمامي في المدينة المنورة، فصرنا بنعمةٍ من الله وفضلٍ نتنقَّل بين المدينتين المقدستين زائرين ومعتمرين، وكانت لنا الحُسنيَين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وقد درج أهلونا على حجَّ البيت مرارًا وتكرارًا كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، فكان بضعهم يحجُّ كل عام، أمَّا أبي فكان يحجُّ عامًا ويقعد عامًا، وكانت رحلة الحج في ذلكم الزمان على أيسر ما تكون، بعيدة عن التكلف،  ولم تكُ ثَمّ هذه التنظيمات العديدة.

ومما يعلق بذاكرتي ولا أنساه، أن أمي كانت تعدُّ شيئًا من الطعام لنأخذه معنا، ونلج مشعر عرفات صبيحة التاسع بسيارتنا –دون حاجةٍ لتصريح-، حاملين أمتعتنا في سقفها، ومعها يجلس الشباب، والنساء بداخل السيارة، وأول ما نبلغ المشعر نبحث عن بقعةٍ مناسبة لننصب فيها الخيمة، وأخرى صغيرة نجعلها بيتًا للخلاء، ومتى ما غربت الشمس ازدلفنا إلى المشعر الحرام، مخلِّفين السيارة وراءنا عند معارض السيارات بالعابدية، راجلين إلى مزدلفة نصلي المغرب والعشاء، ونصيب قسطًا من النوم، ثم نستيقظ لصلاة الفجر، وبعد إسفار الشمس، نتوجه إلى العزيزية مجتنبين زحام منى، ونترك السيارة قريبًا من مبنى الإدارة العامة للتعليم، ونجوز الشارع، وندخل منى لرمي جمرة العقبة صباح يوم العيد، سالكين طلعة صدقي، وبعد الفراغ من الرمي نرجع البيت، ونؤخر الطواف والسعي لمساء الحادي عشر، ولا أذكر مرةً أننا بِتنا بمنى ليالي أيام التشريق، إذ إن أبي على مذهب الإمام أبو حنيفة النعمان، الذي لا يرى وجوب ذلك.

ودومًا كان يرافقنا عوائل أُخر، إذ ضيق ذات اليد لا يمكنهم من تملُّك سيارة، ومنهم من هو جاهلٌ بأحكام الحج، فنِعْم الرفيق لهم أبي، الفقيه الحنفي، الذي يملك سيارة، وحيث إن أعمامي وبنيهم من سكان المدينة المنورة، وحين يأتون للحج فلابد لهم من بيتٍ يأوون إليه؛ ليرتاحوا من وعثاء السفر ومشقة أداء الشعائر، كانوا يحلُّون ضيوفًا علينا في البيت، ويأخذهم أبي للحج؛ لمعرفته بأسهل الطرق، وأبعدها عن العَنَت، وأهل مكة أدرى بشعابها، ولا أحصي عددًا كم من بَنِي عمِّي الذين أدّوا فريضة الحج معنا، وإن كان منهم من لم يحجَّ بعدُ؛ فلأنه لم يدرك أبي إلا وقد وهنَ العظم منه واشتعل الرأس شيبًا، لاسيما البنات، إذ في البيت البرماوي أن الفتاة إذا خطب إليها خاطبٌ فالأصل أن تكون حجَّت مع أبيها، وليس تحجيجها على زوجها.

وبعد كل ما ذكرتُ، أفيكم من يستلب من أبي حقَّه في أن يُدعى مطوِّفًا؟!            

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق