الخميس، 30 نوفمبر 2023

وهذا أخي

 

مما يعلق بذاكرتي من صباي أن معلمًا لي كان يدلِّل على عظم حق الأخ، أنك متى ما أُصبتَ بشيءٍ فتوجَّعت منه، فأول ما تلفظُ هو (أخ)!!

والحق أن قدر الأخ عظيم، ومقامه كريم،  ومن أجال نظره في نصوص الوحيين وقع على ما يهديه إلى هذا، ففي آية النور، يقول الله تعالى: "ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم.."، فالتراتبية في الآية مبنية على الأهمية في القرب والصلة، ويؤكد هذا قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: (برَّ أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك).

اقرأ معي إن شئت قصة النبي صلى الله عليه وسلم- مع أخته من الرضاع الشَّيماء بنت الحارث -رضي الله عنها- حينما قدمت إليه بعد انقطاع طويل، فماذا فعل رسول الله؟ بسط لها رداءه، وأجلسها عليه، وخيَّرها، فقال لها: إن أحببتِ الإقامة فعندي محببة مكرمة، وإن أحببتِ أمتِّعكِ فترجعي إلى قومك؟ قالت: بل تمتِّعني وتردّني إلى قومي، فأعطاها رسول الله ثلاثة أعْبُدٍ وجاريةً ونعمًا وشاءً.

أو شئت فاسكب دمعةً وأنت تستحضر تفجُّع النبي على حمزة رضي الله عنه- بقوله: "لكن حمزة لا بواكي له"، وقد رُزِئ بمقتله في غزوة أحد، ففقدَ أخاه من الرضاع، وعزَّ عليه الأمر وهال، حتى إن وحشيًّا قاتِلَه حين أتى مسلمًا، قال له: هل تستطيع أن تُغيِّبَ وجهكَ عني؟! ما كان ليطيق النظر إلى من سلبه أخاه!!

ثم انتقل معي إلى نبي الله موسى الذي استشفع لأخيه عند ربه من فرط حبِّه له، أن يجعله وزيرًا له، وراح يذكر خصائصه: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفصَحُ مِنِّى لِسَانًا فَأَرسِلهُ مَعِيَ رِدءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ﴾، حتى منَّ الله على هارون بالرسالة والنبوة، فكان موسى أعظم الخلق مِنَّةً على أخيه.

انظر إلى نبي الله يوسف عليه السلام- الذي بالغ إخوته في الكيد له والعداء، حتى رموه في غيابات الجب، يرومون قتله، والخلاص منه؛ غَيرةً منه، ومن تفضيل أبيه يعقوب له عليهم، وظلَّ بعدها يوسف في كبدٍ ومشقةٍ، إلى أن استحالت حاله بعد البؤس إلى النعماء، وما إن سنحت له الفرصة للانتقام من إخوته، والثأر لما فعلوه به صغيرًا، ماذا كان منه؟ قال لهم: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾، لا تثريب!! لا لوم عليكم ولا عتب، وزاد تفضُّلًا فدعا لهم بالمغفرة؛ لأنهم بعد كلِّ هذا إخوته.

تأمل معي جواب هابيل بن آدم لأخيه قابيل الذي أعماه الحسد، وتملكه الغلُّ، ﴿لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يديَ إليك لأقتلك﴾، لم يشأ أن يكون هو من يعادي أخاه، ويبتدره بالشرِّ، لذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن ابني آدم -عليه السلام- ضربا لهذه الأمة مثلًا، فخذوا بالخير منهما".

ولعلَّ حق الأخ يعظم بعد وفاة الأب؛ لأنه ينوء بأحماله من بعده، فيكون أبًا وأخًا، وتشتدُّ الحاجة إليه، فيشمِّر عن ساعد المؤازرة، ويمدُّ يد العون، ويتسربل إزار المساندة.

فالأخ نعمة من الله -عز وجل-، وهو قطعة من القلب، وجزء من الروح، وهو الكتف الذي نتكئ عليه إذا ما اشتدَّت الدنيا، وهو الملاذ الذي نلجأ إليه من رزايا الحياة، وهو الحامل عنا أعباء الحياة وأثقالها، وهو القائد الذي نحتمي به إذا حمي وطيس الأيام، والأخ هو السند، والذخر، والصديق الأبدي، ورفيق الطفولة، وزميل الصبا، وخليل الشباب، فهنيئًا لكل من ملك أخًا حلَّى طعم الحياة حين صار مرًّا.

ولا غرو أن أسطِّر في ختام قالتي توقيعًا لأخي: يا من رأيتُ فيه قول ربي: إني أنا أخوك فلا تبتئس، أدام الله بقاءك، وجعلك لي كهارون لموسى حين قال: اشدد به أزري وأشركه في أمري.

 

بالتأكيد أقصد يوسف، وإلا فالبقية ......

أمزح.. أمزح..

كلُّكم فوق الرأس تيجان

الخميس، 23 نوفمبر 2023

التقسيط

 

التقسيط نظامٌ تمويليٌّ، يملّك الواحدَ ما ليس له بأهلٍ، لتُشبِع فيه نُهمةً استهلاكية، وتُرضي غروره، وتُلبي حاجة عقدة النقص فيه.

فيخولّه قيادة سيارةٍ يعجز عن وقودِها نهاية الشهر –حيث لا تقسيط-، ويمكّنه من محمولٍ عزّ نظيره بلا قدرة على المهاتفة –حيث لا تقسيط-.

ويُولجه عشَّ الزوجيّة، إلا أن أصحابنا الـمُقَسِّطين –غير الـمُقْسِطين- يأبون الولوج، رافضين الفسحة الشرعية، إذ لا عبرة بتطلبات النفس مما لا غنى عنه ولا مناص منه، ومحور الأمر ومركزه موجبات الترف التي لا حاجة إليها، أو المستعاضِ عنها.

باستصحاب حادثة تنحّي الرسول –صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة على الميّتِ صاحب الدّينارَين، حتى تكفّل بهما أبو قَتَادة –رضي الله عنه-، وحديث يُغفَر للشهيد كل شيءٍ إلا الدَّين، فما حكم الشرع في التقسيط لتلبية الاحتياجات الكمالية؟!!    

الاثنين، 30 أكتوبر 2023

تعلموا الخطَّ

 

يروق للمشتغلين بالخط أن يرووا عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قوله: "من كتب بحسن الخط فله الجنة"، وقوله: "من كتب البسملة ولم يعوِّر الميم دخل الجنة"، وينسبون إلى الإمام علي –رضي الله عنه- قوله: "تعلموا الخطَّ فإنه من مفاتيح الرزق"، وجميع ما ذكرتُ من نصوصٍ فيها مقال، ولستُ هنا في معرض إثبات صحتها ونسبتها، لكني في معرض الحديث عن هذا الفن الجميل الذي يسرُّ الناظرين، وفي تعريف بديع للخط العربي يقول ياقوت المستعصمي: "الخط هندسةٌ روحانيةٌ، ظهرت بآلةٍ جسمانيةٍ، إن جَوَّدت قلمك جودت خطك، وإن أهملت قلمك أهملت خطك"، والحقُّ أن التعريف دقيق عميق، فإن للخط الجميل أثرًا واضحًا على نفسية القارئ والناظر للكتابة.

والاهتمام بالخط قديمٌ قِدَم الكتابة ذاتها، فمما جاء في تفسير قوله تعالى: "يزيد في الخلقِ ما يشاء"، إنه الخطُّ الحَسَن، ويروى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: "أو أثارةٍ منْ علمٍ"، قال: الخطُّ، وقالوا: لمَّا كانت الكتابةُ شريفةً، كان حُسْنُ الخطِّ فيها فضيلة، وقال الخليفة المأمون: لو فاخَرَتْنا الملوك الأعاجم بأمثالها، لفخرناها بما لنا من أنواع الخطِّ يُقرأ بكل مكان، ويترجم بكل لسان، ويوجد مع كل زمان، وقيل قديمًا: حُسْنُ الخطِّ أحد الفصاحتين، كما قيل: العيالُ أحد اليَسَارين، ولبعض العلماء: الخطُّ كالروح في الجسد، فإذا كان الإنسان جميلًا وسيمًا حسنَ الهيئة، كان في العيون أعظم، وفي النفوس أفخم، وبضدِّ ذلك تسأمه النفوس، فكذلك الخطُّ إذا كان حسنَ الوصفِ، مليحَ الرصفِ، مفتحَ العيون، أملسَ المتون، كثيرَ الائتلاف، قليلَ الاختلاف، هشَّت إليه النفوس، واشْتَهتْهُ الأرواح، حتى إن الإنسان ليقرؤه -وإن كان فيه كلامٌ دنيء ومعنًى رديء- كان مستزيدًا منه ولو كثر، من غير سأمٍ يلحقه ولا ضجر، وإن كان الخطُّ قبيحًا، مجَّته الأفهام، ولفظته العيون والأفكار، وسئمه قارئه وإن كان فيه من الحكمة عجائبها، ومن الألفاظ غرائبها.

وكانوا فيما مضى يعدُّون رداءة الخط مثلَبَةً بحقِّ العالم، ولعلَّنا لأمدٍ قريب كنا كذلك، فلو عدنا إلى جيل واحد سبقنا، لرأينا فيهم حسن الخط، وجودة الكتابة، وغير خافٍ أن المدارس كانت تُعنى بهذا الفن، فكانت تخصص مادةً لتعليمه.

ولستُ بمضنٍ نفسيَ إن أردت التدليل على سوء المنقلب الذي صرنا إليه، من رداءة خطوط أبناء دهرنا اليوم، وقباحة كتابتهم؛ لبعدهم عن هذا الفن. 

وليس القصد من درسِ الخطِّ مجرد التزويق والتحسين، بل يتعدى ذلك لتعهُّد كثيرٍ من المواهب العقلية؛ كالانتباه، ودقة الملاحظة، والإصابة في الموازنة والحكم، وفيه تعويد الدارسين على النظام، والدقة، والنظافة، والوضوح، والسرعة، والجمال، ويثير في الطلاب حبَّ المنافسة، ويأخذهم بالتأني، والصبر، والمثابرة.

وإن كان الخط في زمنٍ لم تكن فيه المطابع بإمكاناتها الكبيرة في كل بلدٍ، ناهيك عن وجود طابعة في كلِّ منزلٍ، مصدرًا للرزق والتكسب، من خلال نسخ كتب العلماء وتصانيفهم، فهل يكون كذلك اليوم؟!

إن نظرةً خاطفةً على الخطِّ وأهليه، تنبيك أن قالة الإمام عليٍّ تصدق فيهم، ولستُ من الخطِّ في شيء حتى أعدِّد ما يمكن للخطَّاط أن ينخرط فيه، ويعتاش منه، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.

ومما لا يخفى وهو بادٍ كالشمس في رابعة النهار أن ثمة نهضةً في مجال الخط العربي، والمميز في الأمر أن الحضور النسائي في المشهد مبهر ولافت للنظر، والشكر لكل من كان خلف إحياء هذا الفن العربي الأصيل، وبعثه من مرقده.

وبعد ما ذكرتُ فإني أعود لأستدرك على مقولة الإمام علي –كرَّم الله وجهه، فالخطُّ حين يطلق بلا تقييد فإنه يعني في المقام الأول الكتابة من حيث هي، لا حسن تركيب الحروف، وجودة رصفها.

وفي أمةٍ فشت فيها الأمية ردحًا من الدهر، فلا ريب أن الكتابة تعدُّ فضيلة عظمى، يتهافت عليها العوالي من الناس، وتبعًا لذلك فإنها تكون باب رزق واسعٍ لصاحبها.

ولأني ولجتُ عالم الكتابة بإصداري الأول (وتلك الأيام) فإني شاء من شاء، وأبى من أبى، قد غدوتُ من أهلها، والمحسوبين عليها، ولأن كثيرًا من أبناء قومي قد يتسلل إليهم أن الكتابة سوقٌ كاسدة، وتجارة بوار، فإني أبصِّرهم إلى بعض ما يمكن أن يتعاطوا معه، ويحققون به مكاسب ومنافع مادية، وأول هذه الأبواب هو نقل التجربة والخبرة، فبإمكان الكاتب أن يعلِّم غيره ممن لا حظّ لهم بالكتابة، ويسلك بهم الطريق، وينير لهم الدرب، ويمنحهم خبرته، وعصارة تجربته، أيًّا كان ما يكتب (شعرًا، مقالات، قصصًا، مسرحيات، سيناريوهات...)، وبإمكان الكاتب أيضًا أن يدخل عالم التسويق والإعلانات، إذ يُتوقَّع ممن ملك ناصية الأدب أن يكون أهلًا لكتابة نصوص تسويقية وترويجية مميزة، وبإمكانه أيضًا ابتكار أسماء تجارية بديعة، وفوق هذا كله نأتي إلى أعظم أبواب الكتابة المعاصرة وأوسعها، وهي كتابة المحتوى، وهو باب عريض، وسوق ضخمة، والعاملون به قليلون نادرون، ومن سلك هذه الطريق عن دراسة وبينة، فإنه موعود بالخير العميم، والأجر الجزيل، وإن شئت فابحث عن وظيفة كاتب محتوى، ودونك فاقرأ العروض الوظيفية، لتبهرك الأرقام المدفوعة لكتاب المحتوى، والمميزات الممنوحة لهم.

ولن أشير إليكم بتأليف الكتب ونشرها، حتى لا تنازعوني في مملكتي!!

الأربعاء، 24 مايو 2023

بئس بنات العشيرة

 أما وإنَّ صاحبكم حديثُ عهدٍ بأماكن العمل تِهِ التي يختلط فيها أصحاب الشوارب بذوات النهود، ولن آتي على ذكر مغبَّة هذا الصنيع، إذ لو أفضتُ فيه لأتيتُ بالعجب العجابِ، لكنَّ أمرًا بعث فيَّ الريبة من مرقدها، وأجرى قلمي، فهاؤم اقرؤوا كتابيه.

وإذ أنت محصَنٌ، فهذا يعني ضرورةً أنك واقفٌ على بعض أحوال النساء التي لربما غابت عن العَزَب، ولستُ بذلكم الرجل.

جزى الله مثوبةً كل ساعٍ ومعينٍ على إقامة الصلاة، ومنهم ذلك الذي أعدَّ لنا مصلّى حيث نعمل، وفرَشَه، وهيَّأه؛ ليتسنى لنا أن نصلي جماعةً في حينها، ولا مسجد قريب منَّا، والحمد الله الذي أشاع في أمة محمد –صلى الله عليه وسلم- تعظيم شأن هذه الشعيرة، وإجلالها، فأنت متى سمعتَ النداء يصدح به المؤذنون، رأيتَ الناس تُهرع زرافاتٍ ووحدانًا، كلٌّ ينشد ميضأة؛ كيما يجدد وضوءه؛ ليقوم بين يدي ربه.

وأنا أدرك في العمل ثلاث صلوات، العصر والمغرب والعشاء، وفي حين يجتمع الرجال في كلِّ فرض، لم أرَ إحداهنَّ تحرِّك مقعدتها، وتفارق مجلسها، –وهو ما استرابني-، فأيقنتُ –التماسًا للعذر- أن ذلكم العارض الذي يعرض لهنَّ كل شهرٍ، هو ما حال بينهن وبين صنيع شقائقهنَّ، بيد أن الأمر استطال، ودامت هذه الحال أسبوعًا وأسبوعين وثلاثة، فتوجَّستُ، وعلمي أن ذلكم يطرأ عليهنَّ أيامًا معدوداتٍ، لا تبلغ هذا الحدَّ، فرحتُ أرجمُ غيبًا أنْ ربما وضعوا ولدانًا، وأنهنَّ في الأربعين، لكن هل يُعقل أن يكنَّ أجمعين أكتعين نَفْساوات؟! ذلك يبعد، وقد رأيتُ من لا أشك أنها يائسٌ قاعد.

وهنا قعد بي البحث عن أعذار لهنَّ، فطفقتُ أفتِّش في الفقه، علِّي أدرك عِلَّةَ فعلهم، فخلصتُ إلى رأيين اثنين لا ثالث لهما:

الأول: أنهنَّ يعتقدن أن المخاطب بإقامة الصلاة هم ذكور الأمة دون إناثها، وذلك أن الله تعالى قال: "قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة"، ولم يقل سبحانه: قل لإمائي اللائي آمنَّ يقمن الصلاة.

الثاني: أنهنُّ غير مأموراتٍ بإقامة الصلوات في أوقاتها؛ لأن الآية: "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، وليس فيها: المؤمنات.

إليَّ إليَّ أيتها السلفع اللكعاء الرعناء..

إن كنتِ لا تركعينها البتة، فوالله وبالله وتالله الطامة الكبرى، والداهية العظمى، ولن يكفيني المجلد والمجلدان في تسفيلك، والحطّ منكِ، ولو كان لي من الأمر شيءٌ لفعلت بكِ الأفاعيل، وجعلتكِ عبرةً للمعتبرين، وعظةً للمتعظين، أمَّا إن كنت جمَّاعة لها، تُرجئين أداءها لآخر الليل إذ ترجعين من عملك؛ خشية أن تغسلي وجهك ثَمَّ، فتسَّاقط منه الأدهان التي تصبَّغتِ بها، ورجاء أن تبقيه دَبِقًا لزجًا، فهل ترين هذا موجبًا شرعيًّا؟! وأمرًا داعيًا للرخصة؟! بئس أخت العشيرةِ أنتِ، وبئس ما تفعلين، ولتعلمنَّ نبأه بعد حين.    

الأربعاء، 21 ديسمبر 2022

الضُّراط في التحيَّات

 

كان حقُّ تي القالة أن تكون عَقيب هزيمة فريق كرة القدم السعودي أمام غريمه المكسيكي، الهزيمة الأدهى والأمرّ من غيرها، إذ الكبُّ على الوجه بعد التحليق في السماء أنكى، بيد أن من قال بأن كرة القدم هي أفيون الشعوب، وخَمرة هذا الزمان، ما أبْعَدَ النُّجْعَة، وهي تالله قد سقتنا صِرفًا غير ممزوجة في قطر، وأخذت منَّا اللبَّ ذهولًا، والحَنجرة زعيقًا، وجوارح أُخَر ركلًا حينًا، وتصفيقًا حينًا، وبين ذاك وذلك قيامًا وقعودًا.

وشاع إطلاق هاته الكناية (الضُّراط في التحيَّات) على من يحسن العمل شروعًا، واستواءًا، ثم يسيءُ إليه اختتامًا، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، واستأثر فريق الأهلي السعودي بهذا التعبير، حتى لكأنه قُصِر عليه وحُصر.

وذاك أن نظامًا غبيًّا، غريبًا، ما سمعنا به في آبائنا الأولين، كان يقرِّر الفائز ببطولة الدوري السعودي في زمن من الأزمان، وهو ما كان يُسمَّى بالمربع الذهبي.

كانت الفرق تتنافس بالطريقة المعهودة في الدوري، بأن يلعب كل فريق ضدَّ الآخر ذهابًا وإيابًا، لحصد أكبر قدرٍ من النقاط بالفوز وتجنب الخسارة، ولكن .. لكن.. بعد انتهاء جميع المباريات فإن صاحب الرصيد الأعلى من النقاط لا يُتوَّج فائزًا، بل يتبارى مع الثالث، ويلاعبُ الثاني الرابعَ، ليتلاقَ الفائزان منهما ويلعبا على اللقب في المباراة الأخيرة، وقد يكون الفريق منهم لم يُهزم قطُّ، متصدِّرًا طيلة العام، ثم يأتي في مباراته الأخيرة، فيخسرها، ويضيع على نفسه اللقب، وتلك كانت سُنّة الأهلي وديدنه.

ولا أدري من الذي تفتَّقت عن عبقريته هذه البدعة العجيبة، التي لا تخلو من سخف، ولا تبرأ من ظلم، لا بارك الله في صاحبها، وبحسبه ما ناله من سبٍّ وشتمٍ ودعاء بعدم التوفيق من مشجعي الأهلي.   

على أن هذا الضُّراط في التحيَّات يهون، متى جئتُ أخبّرك عن غير قليلٍ ممن عرفتُ، ممن ترعرع في المساجد، صبيًّا حَدَثًا، يروح ويغدو مستظهرًا كلام الله، ثم لـمَّا طرَّ شاربه، وشَبَّ واستغلظ واستوى على سوقه، وانتفى عنه سلطان أبويه، جفا المسجد والمصحف، وكان قاب قوسين أو أدنى من الإتمام، وما هي إلا صفحات معدودات كانت تحول بينه وبين ختم القرآن.

وأعظم منه جريرةً، وأفدح جُرمًا، من أتمَّ حفظ القرآن، بل ربما جلس للدرس والإقراء حينًا من الدهر، ثم إن الدنيا أخذته، ملاهيها ملاعبها، وذهبت به كل مذهب، فأُنْسِيَ القرآن، وضاع منه وتفلَّت، فراح يقول: شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا!!

لا تعتذروا، قد جفوتم بعد وصالكم، وتركتم بعد أخذكم، ولبئس والله ما فعلتم، استبدلتم الذي هو أدنى بالذي هو خير.

فلئن غابت عن الجاهل فهل غابت عنكم: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون"؟!

ولماذا ضربتم عن وصية نبيكم صفحًا، وهو يقول: "تَعاهَدُوا القُرْآنَ، فَوالذي نَفْسِي بيَدِهِ لَهو أشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الإبِلِ في عُقُلِها"؟!

اللهم أشغل ليلنا ونهارنا بالقرآن، واجعلنا من أهله، الذين هم أهلك وخاصتك، وشفِّعه فينا يا أرحم الراحمين.        

الأحد، 11 ديسمبر 2022

بين ببلومانية وبي دي إفَّاوي!!

 

-      أما وإني قبل كل شيءٍ لستُ ببلومانية مهووسة بجمع الكتب، وبالغة حدَّ التطرف في امتلاكها، وإن كانت أمِّي ترميني بذلك زورًا وبهتانًا، وحكمها جائر، وقولها مردود عليها، إذ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، وما هي بالقارئة المثقفة، وما أنا بالتي تلهث خلف كل معرض، وتجري لتدقَّ كل باب مكتبة، لتبتاع من الكتب ما لا تقرأ، ومكتبتي التي تراها، قد أتيتُ على كلِّ كتابٍ فيها، لا اطلاعًا عارضًا فحسب، بل قراءة متعمقة، وتحليلًا، وتقييدًا للفوائد، ودونكها فانظر، ثم إنك يا بي دي إفَّاوي لربما كنتَ ببلومانيًّا بطريقتك، وجامعًا لملفات (pdf) خاصتك في جهازك اللوحي، أو محمولك، اللهم أنها لا تظهر لعين الرائي.   

-      عجيبٌ قولك، وما الذي يدفع بي لذلك؟! أتراني أفاخر بلقطة الشاشة لتلكم الملفات وأضعها بحساباتي في وسائل التواصل الاجتماعي، حاصدًا إعجابات المتابعين، ومظهرًا أني نخبويٌّ، كفعلكم الذي تفعلون، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنَّة!!

-      يبقى الورق هو الأصل، ومن لم يكن له تالد، فليس له مستقبل.

-      فلم نكتب على الورق إذن، أليس الأحرى بكم يا من لكم ماضٍ تليد أن تكتبوا على جلود الحيوانات، وتنقشوا على الحجارة، أو لتكتبوا على سعف النخيل وجريده، فعندكم منه وفرة يا ساكني يثرب، ثم إن الحضارة والمدنية ضربت بنا في كل مناحي الحياة، فما الضير أن يكون الشكل الجديد لتوثيق العلوم وتدوين المعرفة هو الكتب الإلكترونية، ونحن بهذا نساهم في الحفاظ على البيئة، ونحول دون قطع المزيد من الأشجار، إلا أن تكوني مالكةً لدار نشر، وتخشين كساد سوقك وبوار تجارتك؟!

-      لا، طبعًا.

-      ألا تتفقين معي أن العادات الجديدة للقراءة الإلكترونية ساعدت في خلق ونمو مجتمعات ثقافية وإبداعية جديدة؛ كالمدونات، والمنتديات، إلى جانب مجتمعات الإعلام الإلكتروني، وكل هذا أسهم في إيجاد وتفعيل حراك ثقافي وإبداعي كبير؛ امتدَّ أثره من على شبكة الإنترنت أو العالم الافتراضي ليبلغ عالم الواقع، ولا ينكر إلا جاحد أثر هذه المدونات والمنتديات، وأن ما تتمتع به من مجانية النشر وسرعته ويسره ومدى انتشاره وقوة تأثيره، عوامل استثمرها بعض المستخدمين في نشر إبداعاتهم وإشهارها، وزيادة التفاعل والتواصل بينهم وبين متابعيهم، وهذا ما لا نجده في النشر الورقي.

-      حديثي مقتصر عن الكتب، فلا تحد بي عن الجادة، والتزم الطريق،  ولا تتعامَ عن حقيقة أن القراءة الورقية تساعد على الاسترخاء، على عكس القراءة الإلكترونية التي تتسبب في الإجهاد للمخ والعينين.

-      ربما كان هذا الكلام صحيحًا بعض الشيء، قبل أن تظهر للحياة هذه التقنيات الحديثة، والأجهزة التي تعتمد على الحبر الإلكتروني، ولا تعمل بذات الطريقة التي تعمل بها شاشات الجوال والأجهزة اللوحية المعروفة.

-      لكنك تعجز عن تمييز النصوص بلون ظاهر للتنبيه عليها، ولا تقدر على الكتابة وتقييد الفوائد على الهوامش والحواشي.

-      أستاذتي.. في أي عصرٍ تعيشين؟! هذا كلام أكل عليه الدهر وشرب، والكتاب الإلكتروني اليوم يسمح لك بتحديد الجمل والعبارات بمئة لون إن أحببت، ويمكِّنك من وضع علامات مميزة عند الصفحة التي توقفت عندها، ويُربِي على الكتاب الورقي بجملة من الخدمات والتسهيلات، ولو أتيت على ذكر النقل والاقتباس والنسخ، وهو أمر بالغ الأهمية، لأتى كتابك الورقي منهزمًا مضرجًا بدمائه، يجرُّ أذيال الخيبة والحسرة، فَصَهٍ!!

-      القراءة الإلكترونية لا تساعد على قراءة المطولات من الكتب، وربما كانت مناسبة للقراءة الخاطفة السريعة، التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

-      على من ادَّعى البينة، فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون، إلام تستندين في دعواكِ، وما برهانك على ما تقولين؟ دونكِ حسابي في موقع (goodreads) وسترين أني قرأتُ كتبًا جاءت في عشرة أجزاء وأكثر، ولم يكن شيءٌ منها ورقيًّا البتة، ولست في ذلك بدعًا من القرَأَة، فمن أين لك أن القراءة الإلكترونية ليست ذات مطلب في المطولات؟! 

-      بعض الكتب الإلكترونية لا ترقِّم صفحاتها، بل تُظهِر نسبة مئوية لما قرئ منها، وهذا يُحدث مشكلة؛ تجعل من الصعب على القارئ العودة إلى الصفحة المطلوبة عن طريق رقمها، والمشكلة الأخرى تظهر في ترقيم الصفحات، إذ مع إمكانية تغيير حجم الخط ونوعه في الجهاز الإلكتروني الخاص بكل قارئ، قد يختلف عدد صفحات الكتاب الواحد من جهاز لآخر، وفقًا لإعدادات المستخدم، وهذا ما لا تجده في الكتاب الورقي ذي النسخة الموحدة في أرقام الصفحات وحجم الخط ونوعه.

-      ليست مسألة ذات بال، فما ذكرتِهِ قليل، والأصل أن النسخة الإلكترونية من الكتاب تكون موحَّدة، ناهيك أن كثيرًا منها ما هي إلا النسخة الورقية مسحوبة ضوئيًا، ومرصوفة تمامًا كالكتاب الورقي، ولا أريد أن أقلب عليك الطاولة فأقول بأن الكتاب الورقي ذاته يأتي على طبعات، ومن دور نشر متعددة، فتتضارب النسخ، لا في حجم الصفحات، ونوع الخط فحسب، بل يتعدى الأمر إلى حذف أجزاء، واقتصاص أجزاء، وبتر أفكار.  

-      الكتب الورقية بهاء المنزل، وزينة البيت، تسر الناظرين، وتبهج الرائين، وتدلِّل على ثقافة الساكن، وعلم القاطن.

-      نعم، لكن ما عساه يفعل من ضاقت مساحة بيته، وصغرت غرفه أو قلَّت؟! ثم إن المثقف يربأ بنفسه عن هذا، فالعلم أجلُّ وأعظم من أن يكون للتباهي، وأهلوه أرقى وأسمى من يتغطرسوا ويتكبروا ويتنرجسوا.    

-      القراءة عبر الشاشات تؤثر بشكل سلبي على العينين، وتضعف البصر، وتتسبب في التشتت وقلة التركيز، إذ الجهاز يحمل بجانب الكتب جملة السرَّاق وسائل التواصل الاجتماعي، المنافس الأشرس للكتاب، والشاغل الرئيس عن القراءة، فتجد نفسك بين الفينة والفينة تعرِّج على تويتر، ثم تزدلف قليلًا إلى يوتيوب، ولعلك زرت سناب شات، أو واصلت انستجرام.

-      إما إضعاف البصر فغير صحيح على الإطلاق، وقد سألت في ذلك كبار أطباء العيون، وإنما كانت هذه إشاعة من أولياء الأمور، للاحتيال على الأطفال، وصرفهم عن الشاشات المضيعة أوقاتهم وأعمارهم، وأما التشتت والضياع فربما كان في حقِّ اللاعب اللاهي، التي لم تكن القراءة بالنسبة إليه أسلوب حياة، وغذاء لا يحيا بدونه، لكن أهل الجدِّ والعزم، قادرون على عدم الالتفات لتلكم الملهيات، والقراءة بتركيز تامٍّ. 

-      لكنك تتفق معي في الرمزية، وأن الكتاب الورقي بيد الوالدين يربي الولد على الاقتداء والتأسي بهما، والولوج لعالم القراءة منذ سنٍّ مبكرة.

-      أتفق على مضض، وأحتجُّ وأعترض، فنحن من غرس في أذهان أطفالنا أن هذه الأجهزة هي للهو، وتزجية الوقت بما لا طائل منه، وما هي كذلك، وإنما نحن من نكسب الأشياء معانيها، ونفرض على من حولنا أفكارنا.

-      أرجعُ القهقرى، وأرفع الراية البيضاء مستسلمة، فما مثلك خصيمًا مجادلًا أقوى نزاله، وأقدر على مجابهته، وأستطيع مناظرته، لكن سؤالي الأخير وأعلم أنك لم تترك القراءة الورقية بالكلية، أيهما تفضِّل ويروقك؟ آلقراءة الإلكترونية أم الورقية؟

-      قبل أن أجيبك فأنا لم آت على ذكر زهد الثمن في القراءة الإلكترونية، ومجانيتها في أحايين كثيرة -ولن أخوض معكِ مسألة الحقوق الفكرية وحقوق النشر والطبع-، ونافلة على ذلك وهي من أمّات المناقب أني أحمل مكتبتي معي أنى ذهبتُ، ومتى أعياني كتابٌ، حمَّضتُ بآخر سلس بسيط، لأعود للأول أنشط وأقدر، وإن احتجت إلى التفتيش عن مسألة والتنقيب عن مستغلقة، فأيسر ما يكون، لكني رغم ذلك كله، أحبِّذ الورق، ويروقني ملمسه، ويغريني شكله، ويفتنني عبقه، أو ربما كان ذلك إرضاء لسيدتي وقد أجهدتها!!    

 

الخميس، 27 يناير 2022

ولاء VS فدوى

 

 

الناس في السَّماع على ضروب، ولستُ هنا لاستقصائهم، إنما حديثي عن أهل السَّماع من المولعين بالأدب العربي، إذ إليهم أنتسبُ -وإن ادِّعاءً-، فهؤلاء لا يرتضون الغثَّ، ولا يسلِّمون للهزيل، ولا يتسلل إلى مسامعهم الرديء من الكلام، ويوصدون الباب دون الذائع الشائع اليوم من أغاني المتردية والنطيحة، من الصاخبة المليئة جلَبةً، أو حتى الرائقة التي ما ارتقت بها كلماتها، فأتت واقعة ساقطة سافلة.    

والأدباء إن اتفقت كلمتهم على أن أبا الطيب أشعر العرب في الجملة، وإن تفوَّق عليه بعضهم في قصائد مفردة، فإنهم إلى عهدٍ قريبٍ كانوا يرون القيصر أجود من غنَّى الفصيح وشاد به، وإن فاق غيره في فَرُود.

على أن دوام الحال من المحال، والأمة ولَّادة، ولكل سلَفٍ خلفٌ، وآن لكاظمٍ أن ينزاح عن العرش، ويستخلف غيره.

وبادٍ وجليٌّ بأخَرَة أن المشتغلين بالأدب ارتووا بعد ظمًأٍ، وعلُّوا بعد صدًى، لما سمعوا جديد ولاء الجندي، فراحوا يذيعون أغانيَها في كل مَربَع، ويفشون أنغامها في كلِّ وادٍ، ويحتفون بها أيما احتفاء، وهي والله بهذا خليقٌ وحقيق، وشدوُها في الغناء الفصيح مثار عُجبٍ، وموطن دهشة، في نطقٍ فصيح، وأداءٍ صحيح، عارٍ من اللحن، خالٍ من النشاز، وتنوُّع يهزُّك طربًا، ويغمرك جَذَلًا، وتظل فدوى المالكي أرسخ قدمًا، وأعلى قِدحًا، وما ذاك لانتقاصٍ من ولاء، حاشا وكلا، فما هي –وربي- دونها في الإتقان، وليست بأقلَّ منها في الإحسان، بَيد أن ثَمَّت عوامل -من وجهة نظري- هي من أحرزت لفدوى قصب السبق، وتوَّجتها بتاج الغناء الفصيح، متقدمة في ذلك حتى على كاظم الساهر ذاته –أنا أتحمل تبعة قالتي وأنوء بوزر كلمتي- وفي رأس تلك العوامل أنها غاصت في بحر الأدب العربي فاستخرجت منه درَّه، وأهدته لنا أنيقًا سنيًّا فاتنًا، فبالله عليك كيف يملك مشتغل بالأدب أن لا يطرب لبردة البوصيري، أو نونية ابن زيدون، أو يتيمة ابن زُريق البغدادي، وغيرها من عيون الأدب التي غنَّتها، وولاء وإن غنَّت من رائق شعر عبد العزيز البابطين، فأين الثرى من الثريَّا، وشتَّان ما بين مدارج الأفلاك ومسابح الأسماك، ثم عاملٌ آخر لا يقلُّ شأوًا عن سابقه، هو أن الموسيقار ممدوح الجبالي الذي يلحِّن لفدوى يعطي النغم حقَّه ومستحقَّه، ولا ينتقل من مقامٍ إلى آخر إلا وقد أشبعك طربًا ونشوةً، وهذا ما لا نلمسه فيمن لحَّن لولاء، فقِصَر أمَدِ الأغنية يفرض عليها نوعًا من العجَلة في التنقلات، فما تكاد تسكَنُ إلى مقامٍ حتى يخرجك منه الملحن إلى آخر، ولـمَّا تقضِ أرَبَك منه، ولربما كان ذا الاختلاف في نهج التلحين هو نتيجة تباين الجمهور المعنيِّ؛ فجمهور ولاء الذين طاروا بها عنان السماء قد لا يطيقون سماع مطوَّلات فدوى، وغير قليلٍ ممن نعرف، إن أربت الأغنية على الدقائق الخمس تحوَّل عنها إلى غيرها، فليس كل أحد يطيق المطولات، ومن اعتاد سماعها لن يجد كبير لذةٍ في المقصَّرات؛ فالمستطرب بحقٍّ حتى تتمكَّن منه مُدامة الطرب، وتفعل فيه أفاعيلها، فسمعه بحاجةٍ لتخليةٍ قبل التحلية، بعزفٍ لا يقلُّ أمدُه عن أغنية من نوع أغاني ولاء، ثم يلج إلى المقطع الأول، فيتهادى الغناء إلى أذنه، ويتحرك به لسانه، فيحفظه عن ظهر قلب –هذا إن لم يكن مستظهرًا للقصيدة سلفًا- ثم يزدلف إلى المقطع الآخر، وهكذا حتى يفرغ المغني، وقد حفظ الأغنية، ووعاها، وأتقن أداءها صوتًا ولحنًا وكلامًا، على أن الجمال قَمِنٌّ أن يُشاد به، وأغاني ولاء في صورتها النهائية المرئية تسرُّ الناظرين، وتبهج المبصرين.

وإن كان لا مناص من مقارنة، فالنصَفَة أن تكون بين أعمال الثنائي (الجبالي وفدوى) والثنائي (السنباطي وأم كلثوم).

وقصارى القول أن لكلتيهما الإكبار والإجلال، إذ بعثتا الحياة في أرضٍ مَوَات، وما تألوان جهدًا في منحنا معشر الأدب لذةً سمعية رفيعة المستوى تليق بنا.   

أيا فدوى ويا ولاء، لكما عظيم المحبة والإعجاب، ونظل دائمًا في ترقُّب للجديد.

زانَتكِ في الطَّرَبِ الأصِيلِ مَحَاسِنٌ

يُغرى بِهِنَّ وَيولَعُ الأُدُبَاءُ

الثلاثاء، 4 يناير 2022

مطوّفون أيضًا

 

من نافلة القول ومكرور الكلام بلا طائل أن تشرح معنى (مطوِّف) لساكنِ مكة، بَيْدَ أن قَالَتِي لربما بلغت آفاقًا أبعد، فعليه أقول: ليس المطوف ذلكم الشيخ الذي يكون في صحن المطاف، والذي يعتمر شماغًا، ويلتحف مشلحًا، ويقود مجموعةً من الطائفين، يرددون معه الدعاء أثناء الطواف، وهو وإن كان مطوِّفًا بفعله وصفته، إلا أن المعهود الذهني عندنا منصرفٌ إلى غيره.

فيما مضى كان الحجاج حين يفدون إلى مكة، يقيمون عند بعض عوائلها، فيقومُ كل أفراد تلكم العوائل على خدمة الحجاج في كامل رحلة النُسُك، ينزلونهم في بيوتهم، ويتعهدون مطعمهم ومشربهم، ويذهب بهم الرجال إلى الحرم ليطوِّفوهم، ويتكفَّلون بنقلهم إلى المشاعر المقدسة، ونصب الخيام هنالك، وإسكانهم بها، وهم في كل ذلك يعملون على راحتهم في أداء الفريضة، ولا يشترطون لذلك جُعْلًا، والأمر متروك للحجاج، يكرمونهم نظير خدمتهم بما تجود به أنفسهم، وللمسألة تفاصيل، لستُ أهلًا للحديث عنها، إذ لا أنحدر من إحدى تلك العوائل.

وكان العمل على هذا إلى مطلع القرن الهجري الحالي، إلى حين تقنين تقديم هذه الخِدْمات وضبطها بإنشاء مؤسسات الطوافة من أبناء تلك العوائل، وصار المنتسب إلى إحدى هذه المؤسسات يُسمى (مطوِّفًا). 

وقد أتيتُ بتي التَّقْدِمَة لحاجةٍ في نفس يعقوب، ولتعلمنُّ نبأه بعد حين.

أما وإن جدِّي في مقدَمِه من إقليم أراكان إلى هذه الديار في الرعيل الأول من المهاجرين وقتذاك، استوطن مكَّة أول أمره، ثم تحوَّل عنها إلى جوار الحبيب المصطفى –صلى الله عليه وسلم- ونِعم واللهِ ما فعل، وإني أشكر له هذا الصنيع، إذ أضاف لنا أسبابًا أخر لزيارة المدينة النبوية، وكان والدي تبعًا لجدِّي، فاستوطنها في بعض سنيِّ شبابه، ثم إنه بعد زواجه من أمي (ابنة مكة) بعامٍ، عاد إلى مكة، وظلَّ جدي وأعمامي في المدينة المنورة، فصرنا بنعمةٍ من الله وفضلٍ نتنقَّل بين المدينتين المقدستين زائرين ومعتمرين، وكانت لنا الحُسنيَين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وقد درج أهلونا على حجَّ البيت مرارًا وتكرارًا كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، فكان بضعهم يحجُّ كل عام، أمَّا أبي فكان يحجُّ عامًا ويقعد عامًا، وكانت رحلة الحج في ذلكم الزمان على أيسر ما تكون، بعيدة عن التكلف،  ولم تكُ ثَمّ هذه التنظيمات العديدة.

ومما يعلق بذاكرتي ولا أنساه، أن أمي كانت تعدُّ شيئًا من الطعام لنأخذه معنا، ونلج مشعر عرفات صبيحة التاسع بسيارتنا –دون حاجةٍ لتصريح-، حاملين أمتعتنا في سقفها، ومعها يجلس الشباب، والنساء بداخل السيارة، وأول ما نبلغ المشعر نبحث عن بقعةٍ مناسبة لننصب فيها الخيمة، وأخرى صغيرة نجعلها بيتًا للخلاء، ومتى ما غربت الشمس ازدلفنا إلى المشعر الحرام، مخلِّفين السيارة وراءنا عند معارض السيارات بالعابدية، راجلين إلى مزدلفة نصلي المغرب والعشاء، ونصيب قسطًا من النوم، ثم نستيقظ لصلاة الفجر، وبعد إسفار الشمس، نتوجه إلى العزيزية مجتنبين زحام منى، ونترك السيارة قريبًا من مبنى الإدارة العامة للتعليم، ونجوز الشارع، وندخل منى لرمي جمرة العقبة صباح يوم العيد، سالكين طلعة صدقي، وبعد الفراغ من الرمي نرجع البيت، ونؤخر الطواف والسعي لمساء الحادي عشر، ولا أذكر مرةً أننا بِتنا بمنى ليالي أيام التشريق، إذ إن أبي على مذهب الإمام أبو حنيفة النعمان، الذي لا يرى وجوب ذلك.

ودومًا كان يرافقنا عوائل أُخر، إذ ضيق ذات اليد لا يمكنهم من تملُّك سيارة، ومنهم من هو جاهلٌ بأحكام الحج، فنِعْم الرفيق لهم أبي، الفقيه الحنفي، الذي يملك سيارة، وحيث إن أعمامي وبنيهم من سكان المدينة المنورة، وحين يأتون للحج فلابد لهم من بيتٍ يأوون إليه؛ ليرتاحوا من وعثاء السفر ومشقة أداء الشعائر، كانوا يحلُّون ضيوفًا علينا في البيت، ويأخذهم أبي للحج؛ لمعرفته بأسهل الطرق، وأبعدها عن العَنَت، وأهل مكة أدرى بشعابها، ولا أحصي عددًا كم من بَنِي عمِّي الذين أدّوا فريضة الحج معنا، وإن كان منهم من لم يحجَّ بعدُ؛ فلأنه لم يدرك أبي إلا وقد وهنَ العظم منه واشتعل الرأس شيبًا، لاسيما البنات، إذ في البيت البرماوي أن الفتاة إذا خطب إليها خاطبٌ فالأصل أن تكون حجَّت مع أبيها، وليس تحجيجها على زوجها.

وبعد كل ما ذكرتُ، أفيكم من يستلب من أبي حقَّه في أن يُدعى مطوِّفًا؟!            

الثلاثاء، 28 ديسمبر 2021

جَهَاز العروس

جلس إليَّ صديقي سلطان الشمري وعاجلني مستفهمًا مستنكرًا: ما مقالةٌ بلغتني عنكم أيها البرماويون؟!

-       وما ذاك؟

-   أنا أشكرُ إليك أن أعلمتني أنني متى ما قدمتُ ضيفًا على برماويٍّ، ولم يقدِّم لي (الدروسكورا) فإنه قد قصَّر في إكرامي، ولكن..

-       ولكن ماذا يا هذا؟!

-       وإن كنتُ أهتمُّ بمطعَمي وما يلج بطني، إلا أن هذا الأمر أعظم وأجلُّ.

-       بُح يا ابن أمِّ ولا تخف.

-   بلغني أنه إذا خطب رجلٌ إلى أحدكم كريمته، فإن العادة عندكم تقضي بأن والد العروس يجهِّزها، وأن العريس إنما يوفِّر مسكنًا، ويُتكفَّل له بغرفة النوم، والمكيف، والسجاد، والثلاجة، والغسالة، والطباخة، و... ولوازمها كلها.

-   نعم، حتى الملح والسكر في علب المطبخ، لكن الصحيح أن ذلك ليس على والد العروس بمفرده، بل على قرابة العروس أجمعين، فالعمُّ يساهم بشيء، والخال كذلك، والعمَّة تتولى أمرًا، والخالة تفعل الشيء ذاته، وكلٌّ يشارك ويقدِّم ما يستطيع.

-       فلست بغالطٍ إذن إن أنا قلتُ أنني داخلٌ بمجهودي!!

-   نعم، إلى حدٍّ بعيد، ولعلِّي أفاخر فأقول: ليس الأمر مسألة عادة اجتماعية، بل هي سنة نبوية اختصَّ الله بها بعضًا من الأمم والأعراق، نحن منهم، ففي الحديث عن عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: (جَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاطِمَةَ فِي خَمِيلٍ وَقِرْبَةٍ وَوِسَادَةٍ حَشْوُهَا إِذْخِرٌ)، وفي نصٍّ آخر: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا زَوَّجَهُ فَاطِمَةَ بَعَثَ مَعَهُ بِخَمِيلَةٍ وَوِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَرَحَيَيْنِ وَسِقَاءٍ وَجَرَّتَيْنِ) ولا إشكال في نوع ما يُهدى، إذ العبرة بالزمان والمكان، وما كان يُفرش في البيوت قبل خمسين عامًا لا يُفرش اليوم، وما يحتاجه ساكن حائل من أغطية ولُحُفٍ لفصل الشتاء، لربما لم يرَها المكاويُّ يومًا من الدهر فضلًا عن أن يحتاج إليها.

-       فإني خاطبٌ إليكم، فهلّا زوجتموني من لدنكم.

-       هذا العرض لا يشمل العرسان من غير بني جلدتنا، فافرنقع عني.

 

·       الدروسكورا: سيدة المائدة البرماوية، وهي عبارة عن دجاجة تُسلق أولًا بتوابل معينة، بعد أن تُضمَّ رجلاها إلى جناحيها على هيئة مخصوصة، ويغدو ذلكم الماء الذي سُلقت فيه حساءً، ثم تُقلى الدجاجة في الزيت وتحمَّر، وهي علامة الكرم والضيافة عند البرماويين، وتضاهي في الرمزية المفطّح عند أهل السعودية. 

الاثنين، 13 سبتمبر 2021

البراقع

 

في زمن الغواية الأول، أيامَ كنتُ يفَعًا في ميعة الصبا، ولـمَّا يطرّ شاربي، وما كان ليَ من علمٍ بالتفرقة بين العوالي البواسق من القصائد، وبين المتردِّية والنطيحة منها، سمعتُ مع من سمع المريخي ينشدُ:

صادفني ثلاث احترت وياهنّ

أبهرنّي صحيح وقمت أطالعهنّ

طولهنّ واحد ولبستهنّ وممشاهنّ

والله أعلم بعد يمكن طبايعهنّ

زاهياتٍ براقعهنّ  وتزهاهنّ

لعن أبو جدهنّ ما أحلى براقعهنّ

فذهبت بي وقتئذٍ كل مذهبٍ، وأخذتْ بلبِّي، ولا تثريب عليَّ، ومن نافلة القول فإن آخر بيتٍ ليس شتمًا البتة، ولا يظنُّ هذا إلا جهول بسَنَن العرب في كلامها، إذ يعظِّمون ويهوِّلون قائلين: "قاتله الله ما أشجعه"، و"إلعن أمّها دميرة"، ومنه قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "فاظفر بذات الدين ترِبَتْ يداك".

ثم إني بعد ذلك سمعتُ أبا نورة يغنِّي للفيصل:

ما هقيت إن البراقـع يفتننَّـي

لين شفت ظبا النَّفود مبرقعاتِ

الله أكبـر يا عيـونٍ ناظرنَّـي

فاتناتٍ ناعسـاتٍ ساحـراتِ

فانضممتُ ردحًا من الدهر إلى حزب من يُفتن بالبراقع لذاتها، ويُولع بها لنفسها، غير آبهٍ بما خفي وراء الحجاب وغاب، وإن كانت النفس تعتمل بها الأفكار، لاستكناه هذه المبرقعة، أمليحةٌ هي؟ أم يصدق فيها قول الشاعر:

لا تخُدعي بعض الوجوه قبيحةٌ

فتزينها للناظرين براقعُ

ولـمّا تاب الله عليَّ من النبطي، وهداني للفصيح، والحمد لله الذي هدانا لهذا، رحتُ أفتِّش ما الأدباء قائلون في البراقع، أيجدون فيها فتنةً، يتعشَّقونها وبها يتغزّلون، أم يرونها غيومًا سُود، تحول بينهم وبين النظر إلى البدور الزاهية، فسمعتُ الأول يقول:

جزى الله البراقع من ثيابٍ

عن الفتيان شرًّا ما بقينا

يوارين الملاح فلا نراها

ويخفين القباح فيزدهينا

ويقول الثاني:

إذا بارك الله في ملبسٍ

فلا بارك الله في البرقعِ

يريك وجوه الدُّمى غِرَّةً

ويكشف عن منظرٍ أفظعِ

ولأني امرؤٌ يُملي عليه الشعر أفكاره، ويفرض عليه المعاني مقبولها ومنبوذها، تحوَّلت بين عشية وضحاها إلى ممقتٍ لها وشانئ، مصدقًا قول العامة: (يا ما تحت البراقع ضفادع)!!

وإلى جانب الخلاف الفقهي في مسألة النقاب، كان لزامًا عليَّ أن أنقِّب عن شعراء يزهِّدون فيه، ويدعون إلى اطِّراحه، عضْدًا لشِرعتي، وتأييدًا لمذهبي، فلئن كان الأول عرَّض بالقول ولـمَّح متمنِّيًا:

ليت النقاب على النساء محرَّمٌ

كي لا تغرَّ قبيحةٌ إنسانا

فما أشهى إليَّ قول شوقي آمرًا، محرِّضًا بخبث، مستثيرًا بدهاء:

ضمِّي قناعك يا سعادُ أو ارفعي

هذي المحاسن ما خلقنَ لبرقعِ

فدونكمُ يا بنات حواء .. اسمعوا وعُوا وأطيعوا ..    

الردُّ على ابن الإيه .. الغالط على السيريه

 قضى ربُّ العباد علينا جيران بيته، أن نكون أكثر بقاع الأرض اختلاف ألسنةٍ وألوان، مصداقًا لقوله تعالى على لسان خليله في سورته: "فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم".

فكانت أمُّ القرى منذ الأزل، وستظل إلى الأبد، تُؤوي إليها كلَّ عِرقٍ بإذن ربها، آمِّين زائرين، أو حالِّين مقيمين.

وبات هذا التنوع الثقافي سمةً بارزة لمكة، وعلامةً فارقةً، عزَّ نظيرها في أخواتها من المدن.

ونتيجةً لذلك غدَتْ معرفتنا ببعض أحوال الأمم الأخرى وعاداتها أوثق، ولئن كان اللسان أبيَنَ ملامح الثقافة، فإن الطعام لا يقلُّ شأوًا عنه، ولكلِّ أمَّةٍ موائدها التي بها تُعرف.

عنِّي فإنيَ حلٌّ بهذا البلد، وما بارحته قطُّ، وما كان ذلك حائلًا بيني وبين أن أَطعَم الساتيه الإندونيسي يرافقه الدِندِن والكروبُّوك، وأن أحتسيَ التوميوم التايلندي، وآكل البرياني والتندوري الهندي، وأتذوّق الششبرك الأوزبكي، والتميس الأفغاني، وأصيبَ كلَّ أصيلٍ شيئًا من اليغمش البخاري، والمنتو الصيني، أو أرشفَ بعضًا من الموهينجا الروهنغية، وإن اشتهيتُ حلاوًى فاللدُّو الباكستانية أو راشاقولا.

فإن غرَّبتُ صوب أفريقيا، فالحواوشي المصري أو الكُشَري، والشيَّة السودانية، أو كُسْكُسًا مغربيًّا أو حريرةً... وخاتمةُ ما لذَّ وطاب، وأشبع وأبشم، السيريه النيجيرية، وأخَّرتها وهي مقدَّمةٌ؛ لأفيض الحديث فيها، فشرائح اللحم الهيفاء هذه، محالٌ محالٌ أن تلقى (مكاويًّا) لم يطعمْها، أو لا يستطْعِمُها.

وهي موغلةٌ في مكة أيَّما إيغال، فإنك إن ولَّيتَ الكعبة ظهرك، وتسفَّلتَ جنوبًا، لا تكاد تعدم ركنًا في حارةٍ، أو زاويةً في زقاقٍ، إلا وبه أحد الإخوة النيجيريين، يعبقُ أريجُ شوائه، ويملأ الأرجاء دخانُه، يقلِّب اللحم رأسًا على عقِب، ينادي فيك الأنف والفم والمعدة، فما تملك إلا أن تصيب بعضًا منها.

وهي طُعمةٌ للصغير والكبير، والغني والفقير، والغفير والوزير.

وغير خافٍ على أريبٍ أن بعض التجارِب تكتنفها طقوس تُحيلها تامَّةً مكتملة اللذة، وغالطٌ غالطٌ من أكل السيريه في مطعم، وتوهَّم أنه أتى على الذروة في طعمها، ووالله ما اهتدى إلى حقيقتها، والأصل أن تأكلها واقفًا عند بائع في شارع، أو راجلًا، ثم إن رُمتَ الفردوس الأعلى، فدونكَ وولِّ وجهك شطر شارع المنصور، ديار بني نيجر ومنازلهم، هناك حيث تأكل السيريه كما أنزلت، ونُقلت، ورُويت، وأُثرت عن ساداتها وكبرائها، وإلا فعلمك بها منقوص، ورأيك فيها مبتوت.

 

يا عيييااااال .. هاه .. يجي سيريه عند موسى؟؟!     

الاثنين، 23 أغسطس 2021

تسمع بالمعيديّ خيرٌ من أن تراه

 

 

في ختام لقاء وليد السناني مع داوود الشريان، قصف السناني جبهة الشريان، ودمَّرها تدميرًا، حين قال: أتيت لهذا اللقاء وأنا كاره، وكنت أسمع عنك، وحين قابلتك ازددتُ زهدًا فيك!!

هذا أول ما طرأ ببالي وأنا أقرأ رواية (ترمي بشرر) لعبده خال، وهي المرة الأولى التي أقرأ فيها له، وبدون ذرة شك ستكون الأخيرة، وطلاقًا بائنًا بلا رجعة.

الحقُّ أنني قبل الشروع في القراءة، بلغتُ الجهد في الخلاص من التحيز، والانسلال من التطرف، وخلع ثوبه، إذ الرجل لاكته الألسن –لاسيما المحافظة- ردحًا من الدهر، سبًّا وشتمًا ورميًا بالزندقة.

ولأن لي تجارِب سابقة مع مثل هذه القولبة، ولو جافاني التذكر فلست أنسى قالتهم في نزار، وتفسيقه، بل حتى تكفيره، وعليه قررتُ المضيَّ قدمًا، نابذًا وراء ظهري كل قيلٍ وقال في عبده خال.

ولن أتكلم عن الجوانب الفنية لروايته، فلست لذاك أهلًا، ومن تكلم في غير فنِّه أتى بالعجائب، ومن باب النَّصَّفة فإن المخاتلة في آخر مشهد (التويست) راقتني جدًّا.

حديثي في أوَّله عن لغته، ولأن الرواية عمل أدبي، فاللغة عنصر أساس فيها، ولا رواية سامقة خلا لغةٍ ترقى بها، وكقارئٍ شبَّ على الرافعي والمنفلوطي وطه، وخلَفهم من الأدباء المصاقع الأفذاذ، فإن لغة الرجل ليست بذاك، وهي في جوانب من الرواية عادية جدًّا، وأحيانًا دون المستوى.

وزمجرتي الهادرة، وزئيري المرجف، إنما في استخدامه للجنس، ولم أقرأ له روايات أُخَر، لكن نقلًا عمَّن فعل، فثمَّ رابط بين كتابات الرجل والجنس، حاشا أنه برئ من فعل نوال السعداوي، برقمها جلَّ كتبها بعطف الجنس على اسمٍ.

لا أخفيكم كم حسبلتُ وحوقلتُ وأنا أقرأ، جرَّاء هذا الإسفاف، والعفن، ولئن كنتُ قبلُ قد استغفرت الله سبعين مرَّة بعد فراغي من (الخبز الحافي) لشكري، فإني الآن بعد انقضائي من (ترمي بشرر) أقوم فأغتسل، وأصلي ركعتين، تائبًا منيبًا، متطهِّرًا من هذا القذر، ومتبرئًا من هذا الكدر.

والداهية العظمى والطامة الكبرى، أنه تسقَّط فاختار من الجنس أخسَّه (الشذوذ الجنسي)، فإن ادَّعى أنه يعالج قضايا مجتمعية، ويسلط الضوء على مشاكل واقعية، فما بمثل هذه الطريقة المقززة تُعالج القضايا.

شككتُ لوهلةٍ أنه ربما كتب الرواية وهو غِرٌّ لـمَّا يحتفل بعيد مولده العشرين بعدُ، أو ربما يمَّم وجهته نحو هؤلاء الفتية، إذ عسيرٌ وشاقٌّ على من نضج تقبّل هذا السقوط.

في بعض فصول الرواية كدتُ أتقيَّأ، وهو يصف أمًّا لأحد شخصيات روايته، فيعرِّج بالوصف ذكر نهديها وفَرجها؟!!

أيُّ تردٍّ هذا وأيُّ انحطاط؟؟!

الأمُّ وإن كانت أنثى فاتنة، فإن معناها دائر في فلك الرأفة والرحمة والعطف والحنان، فما المغزى من إقحام الجنس في ذكرها؟!

الجنس وفشوُّه في جنبات الرواية يذكرك بالأعمال السينمائية التي ينتجها السبكي، والتي لا تُعدم في أيِّها من رقَّاصة في حيٍّ شعبي، اعتلت المسرح، وأبدت من لحمها أكثر مما أخفت، وكشفت من مفاتنها ضِعف ما سترت، فإن أنتَ تساءلت: ما الذي أتى بها في السياق الدرامي، وما دورها؟ لم تلقَ إلا إجابة يتيمة: الرخص، والابتذال، والاستخفاف بالمتلقي، وعدم احترامه.

وبعدُ.. فإن ما دفعني إلى قراءة (ترمي بشرر) أني سمعتُ المديفر –وهو عندي مقبول الرأي- في لقائه معه، يصفه بأنه أحد روَّاد الرواية والقصة في المشهد السعودي، وعنوانًا لها في زمانها الحالي، ثم إني في بعض لحظات الخيال الحالم، عقدتُ العزم على أن أجعل من نفسي كاتبًا ينال الجوائز، وكنتُ أمنِّي النفس بنوبل في الأدب (كيف الهياط بس؟!!) وإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة، وكن رجلًا رجْله في الثرى وهامة همَّته في الثريَّا، وفي السبيل إليها البوكر العربية.

من أجل ذلك كتبتُ على نفسي الاطلاع على الروايات الفائزة، فتبيَّن لي يقينًا محالُ غايتي، وبُعد طُلبتي، إذ اللغة التي أدَّعي وصلًا بها، وآتينْها صداقها نِحلة إن هي قبلت القِران، ليست العامل الأساس، ومدار الجائزة، كما كنت أتوهم، وظنِّي –وما هو بخائب- أن ما يرومونه في الفائز لا يتحقق في مثلي لا من قريب ولا من بعيد.

ويبقي سؤالي الملحّ: ما هي المعايير المعتمدة لمنح البوكر العربية؟

إن قالوا اللغة، فـ(خال) كاسمه، خالٍ منها.

وإن قالوا الصنعة الفنية، فبحسب نقاد ذوي باعٍ، فالرواية تعاني ترهُّلًا سرديًّا، وتشتتا ذهنيًا، وبعدًا عن التركيز، وحشوًا يصدق فيه صفة الثرثرة.   

وإن قالوا معالجة قضايا الواقع، فإن سلَّمنا جدلًا بوجودها في جدَّة جارة الحرم –ووالله وتالله وبالله إن هذا ليبعُد- فشاذَّة كشذوذ شخصيات الرواية.

فماذا إذن؟؟

أفتوني في أمري..