يروق للمشتغلين
بالخط أن يرووا عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قوله: "من كتب بحسن الخط فله
الجنة"، وقوله: "من كتب البسملة ولم يعوِّر الميم دخل الجنة"، وينسبون
إلى الإمام علي –رضي الله عنه- قوله: "تعلموا الخطَّ فإنه من مفاتيح
الرزق"، وجميع ما ذكرتُ من نصوصٍ فيها مقال، ولستُ هنا في معرض إثبات صحتها ونسبتها،
لكني في معرض الحديث عن هذا الفن الجميل الذي يسرُّ الناظرين، وفي تعريف بديع للخط
العربي يقول ياقوت المستعصمي: "الخط هندسةٌ روحانيةٌ، ظهرت بآلةٍ جسمانيةٍ،
إن جَوَّدت قلمك جودت خطك، وإن أهملت قلمك أهملت خطك"، والحقُّ أن التعريف
دقيق عميق، فإن للخط الجميل أثرًا واضحًا على نفسية القارئ والناظر للكتابة.
والاهتمام بالخط
قديمٌ قِدَم الكتابة ذاتها، فمما جاء في تفسير قوله تعالى: "يزيد في الخلقِ
ما يشاء"، إنه الخطُّ الحَسَن، ويروى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله
تعالى: "أو أثارةٍ منْ علمٍ"، قال: الخطُّ، وقالوا: لمَّا كانت الكتابةُ
شريفةً، كان حُسْنُ الخطِّ فيها فضيلة، وقال الخليفة المأمون: لو فاخَرَتْنا
الملوك الأعاجم بأمثالها، لفخرناها بما لنا من أنواع الخطِّ يُقرأ بكل مكان،
ويترجم بكل لسان، ويوجد مع كل زمان، وقيل قديمًا: حُسْنُ الخطِّ أحد الفصاحتين،
كما قيل: العيالُ أحد اليَسَارين، ولبعض العلماء: الخطُّ كالروح في الجسد، فإذا
كان الإنسان جميلًا وسيمًا حسنَ الهيئة، كان في العيون أعظم، وفي النفوس أفخم،
وبضدِّ ذلك تسأمه النفوس، فكذلك الخطُّ إذا كان حسنَ الوصفِ، مليحَ الرصفِ، مفتحَ
العيون، أملسَ المتون، كثيرَ الائتلاف، قليلَ الاختلاف، هشَّت إليه النفوس، واشْتَهتْهُ
الأرواح، حتى إن الإنسان ليقرؤه -وإن كان فيه كلامٌ دنيء ومعنًى رديء- كان مستزيدًا
منه ولو كثر، من غير سأمٍ يلحقه ولا ضجر، وإن كان الخطُّ قبيحًا، مجَّته الأفهام،
ولفظته العيون والأفكار، وسئمه قارئه وإن كان فيه من الحكمة عجائبها، ومن الألفاظ
غرائبها.
وكانوا فيما مضى
يعدُّون رداءة الخط مثلَبَةً بحقِّ العالم، ولعلَّنا لأمدٍ قريب كنا كذلك، فلو
عدنا إلى جيل واحد سبقنا، لرأينا فيهم حسن الخط، وجودة الكتابة، وغير خافٍ أن
المدارس كانت تُعنى بهذا الفن، فكانت تخصص مادةً لتعليمه.
ولستُ بمضنٍ
نفسيَ إن أردت التدليل على سوء المنقلب الذي صرنا إليه، من رداءة خطوط أبناء دهرنا
اليوم، وقباحة كتابتهم؛ لبعدهم عن هذا الفن.
وليس القصد من
درسِ الخطِّ مجرد التزويق والتحسين، بل يتعدى ذلك لتعهُّد كثيرٍ من المواهب
العقلية؛ كالانتباه، ودقة الملاحظة، والإصابة في الموازنة والحكم، وفيه تعويد الدارسين
على النظام، والدقة، والنظافة، والوضوح، والسرعة، والجمال، ويثير في الطلاب حبَّ
المنافسة، ويأخذهم بالتأني، والصبر، والمثابرة.
وإن كان الخط في
زمنٍ لم تكن فيه المطابع بإمكاناتها الكبيرة في كل بلدٍ، ناهيك عن وجود طابعة في
كلِّ منزلٍ، مصدرًا للرزق والتكسب، من خلال نسخ كتب العلماء وتصانيفهم، فهل يكون
كذلك اليوم؟!
إن نظرةً خاطفةً
على الخطِّ وأهليه، تنبيك أن قالة الإمام عليٍّ تصدق فيهم، ولستُ من الخطِّ في شيء
حتى أعدِّد ما يمكن للخطَّاط أن ينخرط فيه، ويعتاش منه، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم
لا تعلمون.
ومما لا يخفى
وهو بادٍ كالشمس في رابعة النهار أن ثمة نهضةً في مجال الخط العربي، والمميز في
الأمر أن الحضور النسائي في المشهد مبهر ولافت للنظر، والشكر لكل من كان خلف إحياء
هذا الفن العربي الأصيل، وبعثه من مرقده.
وبعد ما ذكرتُ فإني
أعود لأستدرك على مقولة الإمام علي –كرَّم الله وجهه، فالخطُّ حين يطلق بلا تقييد
فإنه يعني في المقام الأول الكتابة من حيث هي، لا حسن تركيب الحروف، وجودة رصفها.
وفي أمةٍ فشت
فيها الأمية ردحًا من الدهر، فلا ريب أن الكتابة تعدُّ فضيلة عظمى، يتهافت عليها
العوالي من الناس، وتبعًا لذلك فإنها تكون باب رزق واسعٍ لصاحبها.
ولأني ولجتُ عالم الكتابة بإصداري الأول
(وتلك الأيام) فإني شاء من شاء، وأبى من أبى، قد غدوتُ من أهلها، والمحسوبين
عليها، ولأن كثيرًا من أبناء قومي قد يتسلل إليهم أن الكتابة سوقٌ كاسدة، وتجارة
بوار، فإني أبصِّرهم إلى بعض ما يمكن أن يتعاطوا معه، ويحققون به مكاسب ومنافع مادية،
وأول هذه الأبواب هو نقل التجربة والخبرة، فبإمكان الكاتب أن يعلِّم غيره ممن لا
حظّ لهم بالكتابة، ويسلك بهم الطريق، وينير لهم الدرب، ويمنحهم خبرته، وعصارة
تجربته، أيًّا كان ما يكتب (شعرًا، مقالات، قصصًا، مسرحيات، سيناريوهات...)،
وبإمكان الكاتب أيضًا أن يدخل عالم التسويق والإعلانات، إذ يُتوقَّع ممن ملك ناصية
الأدب أن يكون أهلًا لكتابة نصوص تسويقية وترويجية مميزة، وبإمكانه أيضًا ابتكار
أسماء تجارية بديعة، وفوق هذا كله نأتي إلى أعظم أبواب الكتابة المعاصرة وأوسعها،
وهي كتابة المحتوى، وهو باب عريض، وسوق ضخمة، والعاملون به قليلون نادرون، ومن سلك
هذه الطريق عن دراسة وبينة، فإنه موعود بالخير العميم، والأجر الجزيل، وإن شئت
فابحث عن وظيفة كاتب محتوى، ودونك فاقرأ العروض الوظيفية، لتبهرك الأرقام المدفوعة
لكتاب المحتوى، والمميزات الممنوحة لهم.
ولن أشير إليكم بتأليف الكتب ونشرها، حتى
لا تنازعوني في مملكتي!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق