-
أما وإني قبل كل شيءٍ لستُ
ببلومانية مهووسة بجمع الكتب، وبالغة حدَّ التطرف في امتلاكها، وإن كانت أمِّي
ترميني بذلك زورًا وبهتانًا، وحكمها جائر، وقولها مردود عليها، إذ الحكم على الشيء
فرعٌ عن تصوره، وما هي بالقارئة المثقفة، وما أنا بالتي تلهث خلف كل معرض، وتجري
لتدقَّ كل باب مكتبة، لتبتاع من الكتب ما لا تقرأ، ومكتبتي التي تراها، قد أتيتُ
على كلِّ كتابٍ فيها، لا اطلاعًا عارضًا فحسب، بل قراءة متعمقة، وتحليلًا،
وتقييدًا للفوائد، ودونكها فانظر، ثم إنك يا بي دي إفَّاوي لربما كنتَ ببلومانيًّا
بطريقتك، وجامعًا لملفات (pdf) خاصتك في جهازك اللوحي، أو محمولك، اللهم أنها
لا تظهر لعين الرائي.
-
عجيبٌ قولك، وما الذي يدفع بي
لذلك؟! أتراني أفاخر بلقطة الشاشة لتلكم الملفات وأضعها بحساباتي في وسائل التواصل
الاجتماعي، حاصدًا إعجابات المتابعين، ومظهرًا أني نخبويٌّ، كفعلكم الذي تفعلون،
ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنَّة!!
-
يبقى الورق هو الأصل، ومن لم
يكن له تالد، فليس له مستقبل.
-
فلم نكتب على الورق إذن، أليس
الأحرى بكم يا من لكم ماضٍ تليد أن تكتبوا على جلود الحيوانات، وتنقشوا على
الحجارة، أو لتكتبوا على سعف النخيل وجريده، فعندكم منه وفرة يا ساكني يثرب، ثم إن
الحضارة والمدنية ضربت بنا في كل مناحي الحياة، فما الضير أن يكون الشكل الجديد
لتوثيق العلوم وتدوين المعرفة هو الكتب الإلكترونية، ونحن بهذا نساهم في الحفاظ
على البيئة، ونحول دون قطع المزيد من الأشجار، إلا أن تكوني مالكةً لدار نشر، وتخشين
كساد سوقك وبوار تجارتك؟!
-
لا، طبعًا.
-
ألا تتفقين معي أن العادات
الجديدة للقراءة الإلكترونية ساعدت في خلق ونمو مجتمعات ثقافية وإبداعية جديدة؛ كالمدونات،
والمنتديات، إلى جانب مجتمعات الإعلام الإلكتروني، وكل هذا أسهم في إيجاد وتفعيل
حراك ثقافي وإبداعي كبير؛ امتدَّ أثره من على شبكة الإنترنت أو العالم الافتراضي
ليبلغ عالم الواقع، ولا ينكر إلا جاحد أثر هذه المدونات والمنتديات، وأن ما تتمتع
به من مجانية النشر وسرعته ويسره ومدى انتشاره وقوة تأثيره، عوامل استثمرها بعض
المستخدمين في نشر إبداعاتهم وإشهارها، وزيادة التفاعل والتواصل بينهم وبين
متابعيهم، وهذا ما لا نجده في النشر الورقي.
-
حديثي مقتصر عن الكتب، فلا تحد
بي عن الجادة، والتزم الطريق، ولا تتعامَ
عن حقيقة أن القراءة الورقية تساعد على الاسترخاء، على عكس القراءة الإلكترونية
التي تتسبب في الإجهاد للمخ والعينين.
-
ربما كان هذا الكلام صحيحًا
بعض الشيء، قبل أن تظهر للحياة هذه التقنيات الحديثة، والأجهزة التي تعتمد على
الحبر الإلكتروني، ولا تعمل بذات الطريقة التي تعمل بها شاشات الجوال والأجهزة
اللوحية المعروفة.
-
لكنك تعجز عن تمييز النصوص
بلون ظاهر للتنبيه عليها، ولا تقدر على الكتابة وتقييد الفوائد على الهوامش
والحواشي.
-
أستاذتي.. في أي عصرٍ تعيشين؟!
هذا كلام أكل عليه الدهر وشرب، والكتاب الإلكتروني اليوم يسمح لك بتحديد الجمل
والعبارات بمئة لون إن أحببت، ويمكِّنك من وضع علامات مميزة عند الصفحة التي توقفت
عندها، ويُربِي على الكتاب الورقي بجملة من الخدمات والتسهيلات، ولو أتيت على ذكر
النقل والاقتباس والنسخ، وهو أمر بالغ الأهمية، لأتى كتابك الورقي منهزمًا مضرجًا
بدمائه، يجرُّ أذيال الخيبة والحسرة، فَصَهٍ!!
-
القراءة الإلكترونية لا تساعد
على قراءة المطولات من الكتب، وربما كانت مناسبة للقراءة الخاطفة السريعة، التي لا
تسمن ولا تغني من جوع.
-
على من ادَّعى البينة، فإذ لم
يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون، إلام تستندين في دعواكِ، وما برهانك
على ما تقولين؟ دونكِ حسابي في موقع (goodreads) وسترين أني قرأتُ كتبًا جاءت في عشرة أجزاء
وأكثر، ولم يكن شيءٌ منها ورقيًّا البتة، ولست في ذلك بدعًا من القرَأَة، فمن أين
لك أن القراءة الإلكترونية ليست ذات مطلب في المطولات؟!
-
بعض الكتب الإلكترونية لا ترقِّم
صفحاتها، بل تُظهِر نسبة مئوية لما قرئ منها، وهذا يُحدث مشكلة؛ تجعل من الصعب على
القارئ العودة إلى الصفحة المطلوبة عن طريق رقمها، والمشكلة الأخرى تظهر في ترقيم
الصفحات، إذ مع إمكانية تغيير حجم الخط ونوعه في الجهاز الإلكتروني الخاص بكل
قارئ، قد يختلف عدد صفحات الكتاب الواحد من جهاز لآخر، وفقًا لإعدادات المستخدم، وهذا
ما لا تجده في الكتاب الورقي ذي النسخة الموحدة في أرقام الصفحات وحجم الخط ونوعه.
-
ليست مسألة ذات بال، فما
ذكرتِهِ قليل، والأصل أن النسخة الإلكترونية من الكتاب تكون موحَّدة، ناهيك أن
كثيرًا منها ما هي إلا النسخة الورقية مسحوبة ضوئيًا، ومرصوفة تمامًا كالكتاب
الورقي، ولا أريد أن أقلب عليك الطاولة فأقول بأن الكتاب الورقي ذاته يأتي على
طبعات، ومن دور نشر متعددة، فتتضارب النسخ، لا في حجم الصفحات، ونوع الخط فحسب، بل
يتعدى الأمر إلى حذف أجزاء، واقتصاص أجزاء، وبتر أفكار.
-
الكتب الورقية بهاء المنزل،
وزينة البيت، تسر الناظرين، وتبهج الرائين، وتدلِّل على ثقافة الساكن، وعلم القاطن.
-
نعم، لكن ما عساه يفعل من ضاقت
مساحة بيته، وصغرت غرفه أو قلَّت؟! ثم إن المثقف يربأ بنفسه عن هذا، فالعلم أجلُّ
وأعظم من أن يكون للتباهي، وأهلوه أرقى وأسمى من يتغطرسوا ويتكبروا
ويتنرجسوا.
-
القراءة عبر الشاشات تؤثر بشكل
سلبي على العينين، وتضعف البصر، وتتسبب في التشتت وقلة التركيز، إذ الجهاز يحمل
بجانب الكتب جملة السرَّاق وسائل التواصل الاجتماعي، المنافس الأشرس للكتاب،
والشاغل الرئيس عن القراءة، فتجد نفسك بين الفينة والفينة تعرِّج على تويتر، ثم
تزدلف قليلًا إلى يوتيوب، ولعلك زرت سناب شات، أو واصلت انستجرام.
-
إما إضعاف البصر فغير صحيح على
الإطلاق، وقد سألت في ذلك كبار أطباء العيون، وإنما كانت هذه إشاعة من أولياء
الأمور، للاحتيال على الأطفال، وصرفهم عن الشاشات المضيعة أوقاتهم وأعمارهم، وأما
التشتت والضياع فربما كان في حقِّ اللاعب اللاهي، التي لم تكن القراءة بالنسبة
إليه أسلوب حياة، وغذاء لا يحيا بدونه، لكن أهل الجدِّ والعزم، قادرون على عدم
الالتفات لتلكم الملهيات، والقراءة بتركيز تامٍّ.
-
لكنك تتفق معي في الرمزية، وأن
الكتاب الورقي بيد الوالدين يربي الولد على الاقتداء والتأسي بهما، والولوج لعالم
القراءة منذ سنٍّ مبكرة.
-
أتفق على مضض، وأحتجُّ وأعترض،
فنحن من غرس في أذهان أطفالنا أن هذه الأجهزة هي للهو، وتزجية الوقت بما لا طائل
منه، وما هي كذلك، وإنما نحن من نكسب الأشياء معانيها، ونفرض على من حولنا أفكارنا.
-
أرجعُ القهقرى، وأرفع الراية
البيضاء مستسلمة، فما مثلك خصيمًا مجادلًا أقوى نزاله، وأقدر على مجابهته، وأستطيع
مناظرته، لكن سؤالي الأخير وأعلم أنك لم تترك القراءة الورقية بالكلية، أيهما
تفضِّل ويروقك؟ آلقراءة الإلكترونية أم الورقية؟
-
قبل أن أجيبك فأنا لم آت على
ذكر زهد الثمن في القراءة الإلكترونية، ومجانيتها في أحايين كثيرة -ولن أخوض معكِ
مسألة الحقوق الفكرية وحقوق النشر والطبع-، ونافلة على ذلك وهي من أمّات المناقب
أني أحمل مكتبتي معي أنى ذهبتُ، ومتى أعياني كتابٌ، حمَّضتُ بآخر سلس بسيط، لأعود
للأول أنشط وأقدر، وإن احتجت إلى التفتيش عن مسألة والتنقيب عن مستغلقة، فأيسر ما
يكون، لكني رغم ذلك كله، أحبِّذ الورق، ويروقني ملمسه، ويغريني شكله، ويفتنني
عبقه، أو ربما كان ذلك إرضاء لسيدتي وقد أجهدتها!!