الخميس، 1 أغسطس 2019

الأذن تعشق قبل العين أحيانًا..




اعتلى خشبة المسرح بشخصيته الساحرة، الوسيم الأنيق، مطمع الفتيات، وبُغية الصبيّات، وبدأت الفرقة بالعزف، ليستهلّ غناءه صادمًا كلّ من حضر:
كَثُرَ الحديث عن التي أهواها
كَثُرَ الحديث من التي أهواها
ما عمرها؟ ما اسمها؟ ما سرُّها؟ ما شكلها؟ شقراء أم سمراء؟
عيناكِ أحلى أنتِ أم عيناها؟
فاشرأبت الأعناق له، وتطاولت الرقاب إليه، كلٌّ يريد أن يعرف من عشيقة القيصر؟؟ أكملَ..
جُلَّ الذي أخشاه أن تتأثري
فتماسكي وتهيئي وتحضَّري
فلغَيرة النسوان فِعلُ الخنجر 
فتملّك الفضول الجمهور أجمع، وبخاصة النساء، من التي ظفرت بقلب كاظم؟؟ أكملَ..
هي أجمل من كل جميلة .. أحلى منكِ وأحلى مني
هي أرشق من كل رشيقة .. هي أقرب من قلبي عني
هي أبلغ من شعرِ كريم أو كاظم في أروع لحنِ 
وتيرة التوتر في الحضور بدأت في التصاعد، الترقّب كاد يقضي عليهم، من هي؟؟ من هي؟؟ راح بكل ثقة يجيب عن تساؤل جوقة المرددين..
قالو إنك تسهر معها؟؟
طبعًا طبعًا
قالو إنك تسكن معها؟
طبعًا طبعًا
عيناها بيتي وسريري ووسادة رأسي أضلُعُها
تمحو كل هموم حياتي لو مسَّ جبيني إصبعها
ضمِّيني يا أحلى امرأة لو صمتت قلبي يسمعها
وقبل أن ينفجر الجميع بصوت واحد، حنقًا من شدة ما بلغ بهم التطفّل لمعرفتها، أنهى ..
بغداد .. وهل خلق الله مثلكِ في الدنيا أجمعها؟؟
اختلطت تنهيدات الفتيات، بضحكات الشباب، وساد المكان مشاعرَ فرحٍ، أما أنا المتابع من خلف الشاشة فقد كنت في وادٍ آخر، وأول ما خطر ببالي، وشرعت في التخطيط له لحظتي، أن أزور بغداد، هذه التي غنى لها.
قرأتُ -ذاتَ مرة- عملًا أدبيًّا لكاتبٍ صوماليٍّ، واستوقفتني أثناءَ القراءةِ جملةٌ شاردةٌ، لطالما أحسستُ بدبيبِ معناها، وآمنتُ بفحواها، وأنا أقلبُ بصري في كتبِ الرحلاتِ والرواياتِ، إذْ قالَ القرصانُ الأسمرُ في كتابِه: "الأدباءُ أوطانٌ صغيرةٌ"، وهي عبارةٌ ذكيةٌ يستقيمُ معناها في وجدانِ القارئِ العاشقِ، وآيةُ ذلك أنك ترى القرّاءَ من حولِك؛ يفضّلُ بعضُهم رواياتِ هذا الأديبِ، أو يؤثرُ أعمالَ ذاك الكاتبَ، فيقضي في قراءتِها ما شاء اللهُ من الوقتِ والعمرِ، وربما يقرأُ الأعمالَ الكاملةَ، فيستوعبها ويهضمها، ثم حين يطوي آخرَ صفحةٍ من تلك الأسفارِ، ينتابُه شعورٌ غامضٌ من الانتماءِ الوجداني لكاتبِه الأثيرِ، فينظرَ إلى مدارجِ الصِّبا وملاعبِ الطفولةِ التي درجَ فيها الكاتبُ، كما لو كانتْ جزءًا من ذكرياتِه الخاصةِ، وقبسًا من أيامِه الخوالي، ولشدَّ ما يثيرُ العجبُ، أن ترى قارئـًا نهمًا، يهيمُ بحبِّ بلدةٍ نائيةٍ، لمّا يقرأُ عنها في أسفارِ الأدبِ، فيفتنُّ في وصفِ محاسِنها ومفاتِنها، وهو لا يعرفُ موقعَها الجغرافيِّ على الخريطةِ، ولعمري إنَّ الجنونَ فنونٌ!  
أنا إنسان حُبِّب إليَّ التطواف، وسكن قلبي الترحال، وأغرمت باستكشاف المدن، لاسيما التاريخية منها، وإن تعجبْ فعجبٌ أني لـمَّا أفارق بلدتي قطُّ، ومع ذا إن تسألني عن بيروت آخذك معي إلى (الروشة) نصيب غداءنا ثمّ، فنستلذّ بالطعام أشهاه، ونعبّ من الشراب أطيبه، ثم أزدلف بك إلى خليج الزيتونة، لندخّن شيئًا من (الأرجيلة) البيروتية، وما إن يأتي المساء، حتى أصحبك إلى (داون تاون بيروت) نرشف قهوتنا المسائية، بأحد المقاهي، على أنغام حفلة موسيقية.
الأعجب من هذا أني امرؤٌ بصريّ، أرى العالم بعيني، وأكتسب المعانيَ ببصري، وناظري هو الذي يملي علي عشق شيء أو بغضه، لكني عشقت بيروت بمسمعي، إذ شبّب بها نزار قباني، في معرض كلامه عن لقائه حبيبَتَهُ في مطعمٍ:
لم يبقَ سوانا في المطعم
لم يبقَ سوى ظل الرأسين الملتصقين
لم يبقَ سوى حركات يدينا العاشقتين
وبقايا البنِّ الراسب في أعماق الفنجانين
بيروت تغوص كلؤلؤة داخل عينيك السوداوين
بيروت تغيب بأكملها، رملًا، وسماءً، وبيوتًا، تحت الجفنين المنسبلين
بيروت أفتش عن بيروت على أهدابك، والشفتين
فأراها طيرًا بحريًّا، وأراها عقدًا ماسيًّا
وأراها امرأةً فاتنةً، تلبس قبعة من ريشٍ
تشبك دبوسًا ذهبيًّا، وتخبئُ زهرة غاردينيا خلف الأذنين
بيروت! وأنتِ على صدري شيء لا يحدث في الرؤيا
من يوم تلاقينا فيها، صارت بيروت .. هي الدنيا
رويدك يا صديقي رويدك، لا تستنفد كل همّتك، وأبقِ بعضًا من حماستك، فأمامنا رحلة -على طولها- شائقة ماتعة، سنطير إلى قاهرة المعزّ، النوبلي نجيب هناك بانتظارنا، نجوب معه أحياء القاهرة القديمة، بشوارعها الضيقة، والمآذن منتصبة في سمائها، تبثّ في النفس مشاعر لا تتكرر، تلامس الروح أصوات الابتهالات المنبعثة منها، نمرّ في جولتنا بمسجد ابن طولون، نقف على قلعة صلاح الدين، من علوّها نسترجع شيئًا من ذكريات الأمجاد العريقة، نكمل نهارنا بـ(خان الخليلي) نذرع الحيّ العتيق، لا أمتع من التجوال سيرًا على الأقدام داخل أزقةٍ وحَوَارٍ تحتاج إلى عبقريةٍ في فكِّ ألغازها، وحاسةٍ سادسةٍ لمعرفة طلاسمها، فالأزقّة متراصَّة كحبّات عقد، متداخلة كقوس قزحٍ متعدد الألوان، السوق مسقوف بخشبٍ تحدّى الزمن وعوامل التعرية، والأرض مبلّطة بحجر أسود لامع، والشمس تتسلل إلى الحوانيت، تشكّل مع بعضها سراديب ملأى بالكنوز والتحف النادرة.
وإذا بدأنا الرحلة في الخان فلابدّ وأن نلقي نظرة على ما تبقى من مشربيّات مطلّة على الحارة، وأسبلة جميلة مشغولة واجهاتها بالنحاس، وفيها أحواض الماء التي كانت تروي العطاش وعابري السبيل في الزمن الذي كان، وختام الجولة حتمٌ أن نجلس إلى مقهى الفيشاوي، فللشاي الأخضر طعمٌ آخر، برفقة عزفٍ من نوعٍ غريب (ثرثرات الجالسين، يتكلمون فيما يحسنون، وحينًا يهرفون بما لا يعرفون)، يداخله صوت أم كلثوم في المذياع:
مصر التي في خاطري وفي فمي
أحبها من كلِّ روحي ودمي
يا ليت كلَّ مؤمنٍ بعزِّها
يحبُّها حبي لها
بني الحمى والوطنِ
من منكمُ يحبّها مثلي أنا
نحبُّها من روحنا
ونفتديها بالعزيز الأكرمِ
من بعيدٍ كان أحدهم يجوز المقهى، فأشار محفوظ إليه، -يبدو أنه صديقه-، فانتهى إلينا وجلس معنا، رجلٌ ذو ظُرف، يحكي القَصص بأسلوبٍ بديع، ويروي الكثير الكثير من الشعر، فألمح إليه محفوظ أن صاحبي يزور مصر للمرة الأولى، وعليه ضيافته، ففهم الرجل، فوضع يده على الطاولة، وبدأ يدقّ بأطراف أصابعه، واسترسل منشدًا رباعيةً لأمير الشعراء:
النِّيلُ العَذْبُ هو الكوْثرْ
والجنة ُشاطئه الأخضرْ
ريَّانُ الصَّفحة ِوالمنظرْ
ما أبهى الخلدَ وما أنضرْ!
البحرُ الفَيَّاضُ، القُدسُ
الساقي الناسَ وما غرسوا
وهو الـمِنْوالُ لما لبِسوا
والـمُنْعِمُ بالقطنِ الأَنوَر
حبشيُّ اللَّونِ كجيرته
من منبعه وبحيرته
صَبَغَ الشَّطَّيْنِ بسُمْرَته
لوناً كالمسكِ وكالعنبرْ
فزّ صاحبي من مجلسه طربًا، ولم يملك نفسه من الانتشاء، وأقامني من مقعدي، وبات يجذبني، الآن الآن نذهب إلى النيل!!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق