الخميس، 27 يناير 2022

ولاء VS فدوى

 

 

الناس في السَّماع على ضروب، ولستُ هنا لاستقصائهم، إنما حديثي عن أهل السَّماع من المولعين بالأدب العربي، إذ إليهم أنتسبُ -وإن ادِّعاءً-، فهؤلاء لا يرتضون الغثَّ، ولا يسلِّمون للهزيل، ولا يتسلل إلى مسامعهم الرديء من الكلام، ويوصدون الباب دون الذائع الشائع اليوم من أغاني المتردية والنطيحة، من الصاخبة المليئة جلَبةً، أو حتى الرائقة التي ما ارتقت بها كلماتها، فأتت واقعة ساقطة سافلة.    

والأدباء إن اتفقت كلمتهم على أن أبا الطيب أشعر العرب في الجملة، وإن تفوَّق عليه بعضهم في قصائد مفردة، فإنهم إلى عهدٍ قريبٍ كانوا يرون القيصر أجود من غنَّى الفصيح وشاد به، وإن فاق غيره في فَرُود.

على أن دوام الحال من المحال، والأمة ولَّادة، ولكل سلَفٍ خلفٌ، وآن لكاظمٍ أن ينزاح عن العرش، ويستخلف غيره.

وبادٍ وجليٌّ بأخَرَة أن المشتغلين بالأدب ارتووا بعد ظمًأٍ، وعلُّوا بعد صدًى، لما سمعوا جديد ولاء الجندي، فراحوا يذيعون أغانيَها في كل مَربَع، ويفشون أنغامها في كلِّ وادٍ، ويحتفون بها أيما احتفاء، وهي والله بهذا خليقٌ وحقيق، وشدوُها في الغناء الفصيح مثار عُجبٍ، وموطن دهشة، في نطقٍ فصيح، وأداءٍ صحيح، عارٍ من اللحن، خالٍ من النشاز، وتنوُّع يهزُّك طربًا، ويغمرك جَذَلًا، وتظل فدوى المالكي أرسخ قدمًا، وأعلى قِدحًا، وما ذاك لانتقاصٍ من ولاء، حاشا وكلا، فما هي –وربي- دونها في الإتقان، وليست بأقلَّ منها في الإحسان، بَيد أن ثَمَّت عوامل -من وجهة نظري- هي من أحرزت لفدوى قصب السبق، وتوَّجتها بتاج الغناء الفصيح، متقدمة في ذلك حتى على كاظم الساهر ذاته –أنا أتحمل تبعة قالتي وأنوء بوزر كلمتي- وفي رأس تلك العوامل أنها غاصت في بحر الأدب العربي فاستخرجت منه درَّه، وأهدته لنا أنيقًا سنيًّا فاتنًا، فبالله عليك كيف يملك مشتغل بالأدب أن لا يطرب لبردة البوصيري، أو نونية ابن زيدون، أو يتيمة ابن زُريق البغدادي، وغيرها من عيون الأدب التي غنَّتها، وولاء وإن غنَّت من رائق شعر عبد العزيز البابطين، فأين الثرى من الثريَّا، وشتَّان ما بين مدارج الأفلاك ومسابح الأسماك، ثم عاملٌ آخر لا يقلُّ شأوًا عن سابقه، هو أن الموسيقار ممدوح الجبالي الذي يلحِّن لفدوى يعطي النغم حقَّه ومستحقَّه، ولا ينتقل من مقامٍ إلى آخر إلا وقد أشبعك طربًا ونشوةً، وهذا ما لا نلمسه فيمن لحَّن لولاء، فقِصَر أمَدِ الأغنية يفرض عليها نوعًا من العجَلة في التنقلات، فما تكاد تسكَنُ إلى مقامٍ حتى يخرجك منه الملحن إلى آخر، ولـمَّا تقضِ أرَبَك منه، ولربما كان ذا الاختلاف في نهج التلحين هو نتيجة تباين الجمهور المعنيِّ؛ فجمهور ولاء الذين طاروا بها عنان السماء قد لا يطيقون سماع مطوَّلات فدوى، وغير قليلٍ ممن نعرف، إن أربت الأغنية على الدقائق الخمس تحوَّل عنها إلى غيرها، فليس كل أحد يطيق المطولات، ومن اعتاد سماعها لن يجد كبير لذةٍ في المقصَّرات؛ فالمستطرب بحقٍّ حتى تتمكَّن منه مُدامة الطرب، وتفعل فيه أفاعيلها، فسمعه بحاجةٍ لتخليةٍ قبل التحلية، بعزفٍ لا يقلُّ أمدُه عن أغنية من نوع أغاني ولاء، ثم يلج إلى المقطع الأول، فيتهادى الغناء إلى أذنه، ويتحرك به لسانه، فيحفظه عن ظهر قلب –هذا إن لم يكن مستظهرًا للقصيدة سلفًا- ثم يزدلف إلى المقطع الآخر، وهكذا حتى يفرغ المغني، وقد حفظ الأغنية، ووعاها، وأتقن أداءها صوتًا ولحنًا وكلامًا، على أن الجمال قَمِنٌّ أن يُشاد به، وأغاني ولاء في صورتها النهائية المرئية تسرُّ الناظرين، وتبهج المبصرين.

وإن كان لا مناص من مقارنة، فالنصَفَة أن تكون بين أعمال الثنائي (الجبالي وفدوى) والثنائي (السنباطي وأم كلثوم).

وقصارى القول أن لكلتيهما الإكبار والإجلال، إذ بعثتا الحياة في أرضٍ مَوَات، وما تألوان جهدًا في منحنا معشر الأدب لذةً سمعية رفيعة المستوى تليق بنا.   

أيا فدوى ويا ولاء، لكما عظيم المحبة والإعجاب، ونظل دائمًا في ترقُّب للجديد.

زانَتكِ في الطَّرَبِ الأصِيلِ مَحَاسِنٌ

يُغرى بِهِنَّ وَيولَعُ الأُدُبَاءُ

الثلاثاء، 4 يناير 2022

مطوّفون أيضًا

 

من نافلة القول ومكرور الكلام بلا طائل أن تشرح معنى (مطوِّف) لساكنِ مكة، بَيْدَ أن قَالَتِي لربما بلغت آفاقًا أبعد، فعليه أقول: ليس المطوف ذلكم الشيخ الذي يكون في صحن المطاف، والذي يعتمر شماغًا، ويلتحف مشلحًا، ويقود مجموعةً من الطائفين، يرددون معه الدعاء أثناء الطواف، وهو وإن كان مطوِّفًا بفعله وصفته، إلا أن المعهود الذهني عندنا منصرفٌ إلى غيره.

فيما مضى كان الحجاج حين يفدون إلى مكة، يقيمون عند بعض عوائلها، فيقومُ كل أفراد تلكم العوائل على خدمة الحجاج في كامل رحلة النُسُك، ينزلونهم في بيوتهم، ويتعهدون مطعمهم ومشربهم، ويذهب بهم الرجال إلى الحرم ليطوِّفوهم، ويتكفَّلون بنقلهم إلى المشاعر المقدسة، ونصب الخيام هنالك، وإسكانهم بها، وهم في كل ذلك يعملون على راحتهم في أداء الفريضة، ولا يشترطون لذلك جُعْلًا، والأمر متروك للحجاج، يكرمونهم نظير خدمتهم بما تجود به أنفسهم، وللمسألة تفاصيل، لستُ أهلًا للحديث عنها، إذ لا أنحدر من إحدى تلك العوائل.

وكان العمل على هذا إلى مطلع القرن الهجري الحالي، إلى حين تقنين تقديم هذه الخِدْمات وضبطها بإنشاء مؤسسات الطوافة من أبناء تلك العوائل، وصار المنتسب إلى إحدى هذه المؤسسات يُسمى (مطوِّفًا). 

وقد أتيتُ بتي التَّقْدِمَة لحاجةٍ في نفس يعقوب، ولتعلمنُّ نبأه بعد حين.

أما وإن جدِّي في مقدَمِه من إقليم أراكان إلى هذه الديار في الرعيل الأول من المهاجرين وقتذاك، استوطن مكَّة أول أمره، ثم تحوَّل عنها إلى جوار الحبيب المصطفى –صلى الله عليه وسلم- ونِعم واللهِ ما فعل، وإني أشكر له هذا الصنيع، إذ أضاف لنا أسبابًا أخر لزيارة المدينة النبوية، وكان والدي تبعًا لجدِّي، فاستوطنها في بعض سنيِّ شبابه، ثم إنه بعد زواجه من أمي (ابنة مكة) بعامٍ، عاد إلى مكة، وظلَّ جدي وأعمامي في المدينة المنورة، فصرنا بنعمةٍ من الله وفضلٍ نتنقَّل بين المدينتين المقدستين زائرين ومعتمرين، وكانت لنا الحُسنيَين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وقد درج أهلونا على حجَّ البيت مرارًا وتكرارًا كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، فكان بضعهم يحجُّ كل عام، أمَّا أبي فكان يحجُّ عامًا ويقعد عامًا، وكانت رحلة الحج في ذلكم الزمان على أيسر ما تكون، بعيدة عن التكلف،  ولم تكُ ثَمّ هذه التنظيمات العديدة.

ومما يعلق بذاكرتي ولا أنساه، أن أمي كانت تعدُّ شيئًا من الطعام لنأخذه معنا، ونلج مشعر عرفات صبيحة التاسع بسيارتنا –دون حاجةٍ لتصريح-، حاملين أمتعتنا في سقفها، ومعها يجلس الشباب، والنساء بداخل السيارة، وأول ما نبلغ المشعر نبحث عن بقعةٍ مناسبة لننصب فيها الخيمة، وأخرى صغيرة نجعلها بيتًا للخلاء، ومتى ما غربت الشمس ازدلفنا إلى المشعر الحرام، مخلِّفين السيارة وراءنا عند معارض السيارات بالعابدية، راجلين إلى مزدلفة نصلي المغرب والعشاء، ونصيب قسطًا من النوم، ثم نستيقظ لصلاة الفجر، وبعد إسفار الشمس، نتوجه إلى العزيزية مجتنبين زحام منى، ونترك السيارة قريبًا من مبنى الإدارة العامة للتعليم، ونجوز الشارع، وندخل منى لرمي جمرة العقبة صباح يوم العيد، سالكين طلعة صدقي، وبعد الفراغ من الرمي نرجع البيت، ونؤخر الطواف والسعي لمساء الحادي عشر، ولا أذكر مرةً أننا بِتنا بمنى ليالي أيام التشريق، إذ إن أبي على مذهب الإمام أبو حنيفة النعمان، الذي لا يرى وجوب ذلك.

ودومًا كان يرافقنا عوائل أُخر، إذ ضيق ذات اليد لا يمكنهم من تملُّك سيارة، ومنهم من هو جاهلٌ بأحكام الحج، فنِعْم الرفيق لهم أبي، الفقيه الحنفي، الذي يملك سيارة، وحيث إن أعمامي وبنيهم من سكان المدينة المنورة، وحين يأتون للحج فلابد لهم من بيتٍ يأوون إليه؛ ليرتاحوا من وعثاء السفر ومشقة أداء الشعائر، كانوا يحلُّون ضيوفًا علينا في البيت، ويأخذهم أبي للحج؛ لمعرفته بأسهل الطرق، وأبعدها عن العَنَت، وأهل مكة أدرى بشعابها، ولا أحصي عددًا كم من بَنِي عمِّي الذين أدّوا فريضة الحج معنا، وإن كان منهم من لم يحجَّ بعدُ؛ فلأنه لم يدرك أبي إلا وقد وهنَ العظم منه واشتعل الرأس شيبًا، لاسيما البنات، إذ في البيت البرماوي أن الفتاة إذا خطب إليها خاطبٌ فالأصل أن تكون حجَّت مع أبيها، وليس تحجيجها على زوجها.

وبعد كل ما ذكرتُ، أفيكم من يستلب من أبي حقَّه في أن يُدعى مطوِّفًا؟!