الناس في السَّماع على ضروب، ولستُ هنا
لاستقصائهم، إنما حديثي عن أهل السَّماع من المولعين بالأدب العربي، إذ إليهم
أنتسبُ -وإن ادِّعاءً-، فهؤلاء لا يرتضون الغثَّ، ولا يسلِّمون للهزيل، ولا يتسلل
إلى مسامعهم الرديء من الكلام، ويوصدون الباب دون الذائع الشائع اليوم من أغاني
المتردية والنطيحة، من الصاخبة المليئة جلَبةً، أو حتى الرائقة التي ما ارتقت بها
كلماتها، فأتت واقعة ساقطة سافلة.
والأدباء إن اتفقت كلمتهم على أن أبا
الطيب أشعر العرب في الجملة، وإن تفوَّق عليه بعضهم في قصائد مفردة، فإنهم إلى
عهدٍ قريبٍ كانوا يرون القيصر أجود من غنَّى الفصيح وشاد به، وإن فاق غيره في
فَرُود.
على أن دوام الحال من المحال، والأمة
ولَّادة، ولكل سلَفٍ خلفٌ، وآن لكاظمٍ أن ينزاح عن العرش، ويستخلف غيره.
وبادٍ وجليٌّ بأخَرَة أن المشتغلين
بالأدب ارتووا بعد ظمًأٍ، وعلُّوا بعد صدًى، لما سمعوا جديد ولاء الجندي، فراحوا
يذيعون أغانيَها في كل مَربَع، ويفشون أنغامها في كلِّ وادٍ، ويحتفون بها أيما
احتفاء، وهي والله بهذا خليقٌ وحقيق، وشدوُها في الغناء الفصيح مثار عُجبٍ، وموطن دهشة،
في نطقٍ فصيح، وأداءٍ صحيح، عارٍ من اللحن، خالٍ من النشاز، وتنوُّع يهزُّك طربًا،
ويغمرك جَذَلًا، وتظل فدوى المالكي أرسخ قدمًا، وأعلى قِدحًا، وما ذاك لانتقاصٍ من
ولاء، حاشا وكلا، فما هي –وربي- دونها في الإتقان، وليست بأقلَّ منها في الإحسان،
بَيد أن ثَمَّت عوامل -من وجهة نظري- هي من أحرزت لفدوى قصب السبق، وتوَّجتها بتاج
الغناء الفصيح، متقدمة في ذلك حتى على كاظم الساهر ذاته –أنا أتحمل تبعة قالتي
وأنوء بوزر كلمتي- وفي رأس تلك العوامل أنها غاصت في بحر الأدب العربي فاستخرجت
منه درَّه، وأهدته لنا أنيقًا سنيًّا فاتنًا، فبالله عليك كيف يملك مشتغل بالأدب
أن لا يطرب لبردة البوصيري، أو نونية ابن زيدون، أو يتيمة ابن زُريق البغدادي،
وغيرها من عيون الأدب التي غنَّتها، وولاء وإن غنَّت من رائق شعر عبد العزيز
البابطين، فأين الثرى من الثريَّا، وشتَّان ما بين مدارج الأفلاك ومسابح الأسماك،
ثم عاملٌ آخر لا يقلُّ شأوًا عن سابقه، هو أن الموسيقار ممدوح الجبالي الذي يلحِّن
لفدوى يعطي النغم حقَّه ومستحقَّه، ولا ينتقل من مقامٍ إلى آخر إلا وقد أشبعك
طربًا ونشوةً، وهذا ما لا نلمسه فيمن لحَّن لولاء، فقِصَر أمَدِ الأغنية يفرض
عليها نوعًا من العجَلة في التنقلات، فما تكاد تسكَنُ إلى مقامٍ حتى يخرجك منه
الملحن إلى آخر، ولـمَّا تقضِ أرَبَك منه، ولربما كان ذا الاختلاف في نهج التلحين
هو نتيجة تباين الجمهور المعنيِّ؛ فجمهور ولاء الذين طاروا بها عنان السماء قد لا
يطيقون سماع مطوَّلات فدوى، وغير قليلٍ ممن نعرف، إن أربت الأغنية على الدقائق الخمس
تحوَّل عنها إلى غيرها، فليس كل أحد يطيق المطولات، ومن اعتاد سماعها لن يجد كبير لذةٍ
في المقصَّرات؛ فالمستطرب بحقٍّ حتى تتمكَّن منه مُدامة الطرب، وتفعل فيه أفاعيلها، فسمعه
بحاجةٍ لتخليةٍ قبل التحلية، بعزفٍ لا يقلُّ أمدُه عن أغنية من نوع أغاني ولاء، ثم
يلج إلى المقطع الأول، فيتهادى الغناء إلى أذنه، ويتحرك به لسانه، فيحفظه عن ظهر
قلب –هذا إن لم يكن مستظهرًا للقصيدة سلفًا- ثم يزدلف إلى المقطع الآخر، وهكذا حتى
يفرغ المغني، وقد حفظ الأغنية، ووعاها، وأتقن أداءها صوتًا ولحنًا وكلامًا، على أن
الجمال قَمِنٌّ أن يُشاد به، وأغاني ولاء في صورتها النهائية المرئية تسرُّ
الناظرين، وتبهج المبصرين.
وإن كان لا مناص من مقارنة، فالنصَفَة أن
تكون بين أعمال الثنائي (الجبالي وفدوى) والثنائي (السنباطي وأم كلثوم).
وقصارى القول أن لكلتيهما الإكبار
والإجلال، إذ بعثتا الحياة في أرضٍ مَوَات، وما تألوان جهدًا في منحنا معشر الأدب لذةً
سمعية رفيعة المستوى تليق بنا.
أيا فدوى ويا ولاء، لكما عظيم المحبة
والإعجاب، ونظل دائمًا في ترقُّب للجديد.
زانَتكِ
في الطَّرَبِ الأصِيلِ مَحَاسِنٌ
يُغرى
بِهِنَّ وَيولَعُ الأُدُبَاءُ