الاثنين، 13 سبتمبر 2021

البراقع

 

في زمن الغواية الأول، أيامَ كنتُ يفَعًا في ميعة الصبا، ولـمَّا يطرّ شاربي، وما كان ليَ من علمٍ بالتفرقة بين العوالي البواسق من القصائد، وبين المتردِّية والنطيحة منها، سمعتُ مع من سمع المريخي ينشدُ:

صادفني ثلاث احترت وياهنّ

أبهرنّي صحيح وقمت أطالعهنّ

طولهنّ واحد ولبستهنّ وممشاهنّ

والله أعلم بعد يمكن طبايعهنّ

زاهياتٍ براقعهنّ  وتزهاهنّ

لعن أبو جدهنّ ما أحلى براقعهنّ

فذهبت بي وقتئذٍ كل مذهبٍ، وأخذتْ بلبِّي، ولا تثريب عليَّ، ومن نافلة القول فإن آخر بيتٍ ليس شتمًا البتة، ولا يظنُّ هذا إلا جهول بسَنَن العرب في كلامها، إذ يعظِّمون ويهوِّلون قائلين: "قاتله الله ما أشجعه"، و"إلعن أمّها دميرة"، ومنه قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "فاظفر بذات الدين ترِبَتْ يداك".

ثم إني بعد ذلك سمعتُ أبا نورة يغنِّي للفيصل:

ما هقيت إن البراقـع يفتننَّـي

لين شفت ظبا النَّفود مبرقعاتِ

الله أكبـر يا عيـونٍ ناظرنَّـي

فاتناتٍ ناعسـاتٍ ساحـراتِ

فانضممتُ ردحًا من الدهر إلى حزب من يُفتن بالبراقع لذاتها، ويُولع بها لنفسها، غير آبهٍ بما خفي وراء الحجاب وغاب، وإن كانت النفس تعتمل بها الأفكار، لاستكناه هذه المبرقعة، أمليحةٌ هي؟ أم يصدق فيها قول الشاعر:

لا تخُدعي بعض الوجوه قبيحةٌ

فتزينها للناظرين براقعُ

ولـمّا تاب الله عليَّ من النبطي، وهداني للفصيح، والحمد لله الذي هدانا لهذا، رحتُ أفتِّش ما الأدباء قائلون في البراقع، أيجدون فيها فتنةً، يتعشَّقونها وبها يتغزّلون، أم يرونها غيومًا سُود، تحول بينهم وبين النظر إلى البدور الزاهية، فسمعتُ الأول يقول:

جزى الله البراقع من ثيابٍ

عن الفتيان شرًّا ما بقينا

يوارين الملاح فلا نراها

ويخفين القباح فيزدهينا

ويقول الثاني:

إذا بارك الله في ملبسٍ

فلا بارك الله في البرقعِ

يريك وجوه الدُّمى غِرَّةً

ويكشف عن منظرٍ أفظعِ

ولأني امرؤٌ يُملي عليه الشعر أفكاره، ويفرض عليه المعاني مقبولها ومنبوذها، تحوَّلت بين عشية وضحاها إلى ممقتٍ لها وشانئ، مصدقًا قول العامة: (يا ما تحت البراقع ضفادع)!!

وإلى جانب الخلاف الفقهي في مسألة النقاب، كان لزامًا عليَّ أن أنقِّب عن شعراء يزهِّدون فيه، ويدعون إلى اطِّراحه، عضْدًا لشِرعتي، وتأييدًا لمذهبي، فلئن كان الأول عرَّض بالقول ولـمَّح متمنِّيًا:

ليت النقاب على النساء محرَّمٌ

كي لا تغرَّ قبيحةٌ إنسانا

فما أشهى إليَّ قول شوقي آمرًا، محرِّضًا بخبث، مستثيرًا بدهاء:

ضمِّي قناعك يا سعادُ أو ارفعي

هذي المحاسن ما خلقنَ لبرقعِ

فدونكمُ يا بنات حواء .. اسمعوا وعُوا وأطيعوا ..    

الردُّ على ابن الإيه .. الغالط على السيريه

 قضى ربُّ العباد علينا جيران بيته، أن نكون أكثر بقاع الأرض اختلاف ألسنةٍ وألوان، مصداقًا لقوله تعالى على لسان خليله في سورته: "فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم".

فكانت أمُّ القرى منذ الأزل، وستظل إلى الأبد، تُؤوي إليها كلَّ عِرقٍ بإذن ربها، آمِّين زائرين، أو حالِّين مقيمين.

وبات هذا التنوع الثقافي سمةً بارزة لمكة، وعلامةً فارقةً، عزَّ نظيرها في أخواتها من المدن.

ونتيجةً لذلك غدَتْ معرفتنا ببعض أحوال الأمم الأخرى وعاداتها أوثق، ولئن كان اللسان أبيَنَ ملامح الثقافة، فإن الطعام لا يقلُّ شأوًا عنه، ولكلِّ أمَّةٍ موائدها التي بها تُعرف.

عنِّي فإنيَ حلٌّ بهذا البلد، وما بارحته قطُّ، وما كان ذلك حائلًا بيني وبين أن أَطعَم الساتيه الإندونيسي يرافقه الدِندِن والكروبُّوك، وأن أحتسيَ التوميوم التايلندي، وآكل البرياني والتندوري الهندي، وأتذوّق الششبرك الأوزبكي، والتميس الأفغاني، وأصيبَ كلَّ أصيلٍ شيئًا من اليغمش البخاري، والمنتو الصيني، أو أرشفَ بعضًا من الموهينجا الروهنغية، وإن اشتهيتُ حلاوًى فاللدُّو الباكستانية أو راشاقولا.

فإن غرَّبتُ صوب أفريقيا، فالحواوشي المصري أو الكُشَري، والشيَّة السودانية، أو كُسْكُسًا مغربيًّا أو حريرةً... وخاتمةُ ما لذَّ وطاب، وأشبع وأبشم، السيريه النيجيرية، وأخَّرتها وهي مقدَّمةٌ؛ لأفيض الحديث فيها، فشرائح اللحم الهيفاء هذه، محالٌ محالٌ أن تلقى (مكاويًّا) لم يطعمْها، أو لا يستطْعِمُها.

وهي موغلةٌ في مكة أيَّما إيغال، فإنك إن ولَّيتَ الكعبة ظهرك، وتسفَّلتَ جنوبًا، لا تكاد تعدم ركنًا في حارةٍ، أو زاويةً في زقاقٍ، إلا وبه أحد الإخوة النيجيريين، يعبقُ أريجُ شوائه، ويملأ الأرجاء دخانُه، يقلِّب اللحم رأسًا على عقِب، ينادي فيك الأنف والفم والمعدة، فما تملك إلا أن تصيب بعضًا منها.

وهي طُعمةٌ للصغير والكبير، والغني والفقير، والغفير والوزير.

وغير خافٍ على أريبٍ أن بعض التجارِب تكتنفها طقوس تُحيلها تامَّةً مكتملة اللذة، وغالطٌ غالطٌ من أكل السيريه في مطعم، وتوهَّم أنه أتى على الذروة في طعمها، ووالله ما اهتدى إلى حقيقتها، والأصل أن تأكلها واقفًا عند بائع في شارع، أو راجلًا، ثم إن رُمتَ الفردوس الأعلى، فدونكَ وولِّ وجهك شطر شارع المنصور، ديار بني نيجر ومنازلهم، هناك حيث تأكل السيريه كما أنزلت، ونُقلت، ورُويت، وأُثرت عن ساداتها وكبرائها، وإلا فعلمك بها منقوص، ورأيك فيها مبتوت.

 

يا عيييااااال .. هاه .. يجي سيريه عند موسى؟؟!